قلت بالأمس إن العمل الصحفي لا يمكن أن يتحول إلى حصص يتم توزيعها بالتساوي، لكنه -أي العمل الصحفي- يستجيب للاستفزاز ويهتم به أكثر من السائد، وعلى ذلك فإن من يشتكون تهميشهم عليهم ألا ينتظروا أن يتغيّر الحال ما لم يتغيّر حالهم من رتيب إلى نشطٍ ومن خامدٍ إلى ثائرٍ ومن اعتياديٍّ إلى ملفت. كلُّ صحف العالم لها اتجاهات، ولا أحد ينكر على هذه الصحيفة أو تلك إن كانت ذات توجه ليبرالي أو محافظ رصين، أو فضائحيٍّ ملتزم اجتماعيّاً أو دينيّاً أو منفلت بلا ضوابط.. إن القارئ عليه مسؤولية تحديد ما يناسبه ليقرأ ويتابع من خلال الصحيفة التي تتفق مع اهتماماته وأفكاره، لكن ذلك كله لا يدخل في تغيير المعلومة أو صحة الأخبار؛ فالكل هنا لابدّ أن يلتزم بضوابطها واشتراطاتها، يمكن له ألا يتطرق لها كسياسة تحريرية لكنه عندما يتعامل معها لا يمكن له إلا أن يلتزم بالقواعد المهنية لها وأخلاقيات العمل الصحفي. الصحف الرياضية في إسبانيا وإيطاليا التي أشرنا بالأمس إلى أنه عرف عنها قربها لأندية معيّنة، هي صحف عريقة ومهمة وواسعة الانتشار؛ وما يمكن أن يتراءى لنا أنه معيب في منهجها من خلال وصف (القريب من يوفنتوس)، كما عليه الصحيفة الإيطالية (توتو سبورت)، هو غير ذلك عند طيف واسع جداً من القراء، وربّما يرونه أمراً جيداً، حيث يمكن استقاء أخبار النادي والاطلاع على أحواله من الداخل من خلال قرب الصحيفة من هذا النادي الذي لابدّ أن يكون لها جسور تصل داخله، وأيدٍ تقلب الأوراق وتسرب الوثائق والمعلومات المؤكدة. هذا كله مختلف جداً عن فكرتنا هنا عن قرب الصحيفة من النادي، التي تراكمت عبر عقود وأدخل ضمن تكوينها اعتبارات غير صحيحة عن الصحيفة، ومعنى أن تكون قريبة إلى منحازة، وزاد على ذلك إلى محاربة للأندية الأخرى، وبالتالي فإن عليها أن تثبت عكس ذلك، وهو ما لم يتحقق ولن يتحقق لأنه يعني أن تضحي الصحيفة بواحدٍ من أهم مقومات نجاحها الذي ينتهي خلال عقود من الزمن أو سنوات عمل طويلة من أجل إلغاء معادلة ظنّية، أو تغيير العمل الصحفي الذي يجيز لها اختيار سياساتها التحريرية وتوجهاتها لشريحة القارئ الذي تريده بحساباتها. إنّ فشل الذين تصدوا لانحياز الصحافة لأندية دون أخرى كان أهم أسبابه أنهم ركزوا على محاولة التشويه وتحريض الغير على استعدائها أكثر من تحديد ما ارتكبته فعلاً، وهل هي أخطاء تخل بأصول وأخلاقيات المهنة أم أنها فقط تخدم ناديّاً بحدِّ ذاته؟.. كذلك أيضاً تحديد الفرق بين ما تفعله هذه الصحيفة وأخرى لنادٍ آخر؛ وهكذا ثمّ ما الذي يختلف إذا ما كان ما يراه صواباً يراه غيره خطأً حين يرى هو أنه خطأ؟.. وهل يمكن لكل ذلك أن يدخل في تغيير خارطة القوى بين الأندية لمجرد أن صحيفة أو اثنتين أو خمساً منحازة لنادٍ أو لناديين.. وكيف يمكن تفسير السجل التاريخي لما حققته الأندية من إنجازات؛ بعيداً عن اختيارات أو رغبات هذه الصحف التي هي في الواقع لا تقرر النتائج ولا توزع البطولات. كلُّ ذلك مهمُّ جداً حين نريد أن نفتح حواراً نغلق بعده هذا الملف، الذي يتم استدعاؤه لحاجات في النفس أكثر من أن يكون بهدف ونية سليمة، خاصة إذا علمنا أن عصرنا هذا قلل إلى درجة الصفر أهمية أن تكون هناك صحيفة محايدة أو منحازة بعد أن أصبح لكلٍّ وسيلته التي يعبّر من خلالها وحتى ينشر أو يفبرك الأخبار ويسرب الشائعات ويفرغ كلّ أمراضه وينفس عن أحقاده.. ما الذي يدعو الآن للبحث عن صحيفة محايدة وأليس من الأوجب أن نهتم بأن تكون صادقة وغير مسيئة طالما أن خياراتنا متعددة في المتابعة ومتعة القراءة؟.