في المرحلة الابتدائية، كنت أظن أن الراسب أكثر جاذبية من المتفوق. فالراسب في مدرستنا يخطف القلوب والأبصار. يجلس في أعلى درج المدرسة ينوح بأعلى صوته والجميع متجمهرين حوله يحاولون تطييب خاطره ورفع معنوياته. فيحضرون له البيبسي والبسكوت، وحتى المناديل لمسح دموع المظلوم التي تبلل الدرج كله. لدينا إيمان لا يدخله الشك بأنه مظلوم .. فالمدير والوكيل والمدرسون والعمال والطلاب يكرهونه ويغارون منه ويتآمرون عليه وهم سبب فشله رغم عبقريته. أما المتفوق (الأجرب) فلا نقترب منه حتى لا نصاب بالعدوى. لا يحبه أحد لأن تفوقه مثير للشك والريبة.
كبرنا ولكن طريقة التفكير لم تكبر، بل بقيت تلازمنا مثل "حبة خال" قبيحة في الوجه. بقينا نحارب كل ناجح ونتعاطف مع كل فاشل .. حتى النماذج المشرفة التي نحتذي بها ونقدمها لأطفالنا هي لفاشلين ظلمهم الزمن.
ليتنا نتوقف ولو للحظة لنتأمل المتفوق ونعرف سر تفوقه علنا نحاكي هذا النجاح ونقلده.
يمر النصر اليوم بموسم استثنائي لم يقدم مثله في تاريخه. فهو المتصدر نقطياً بفارق تسع نقاط ويتصدر أيضا الفرق في عدد الأهداف. أما دفاعه فالأقوى بمسافات. كما أنه الفريق الوحيد الذي لم يخسر طوال الموسم وقادر على إكمال الموسم دون خسارة .. النصر هذا الموسم مرشح لتحطيم كل الأرقام.
لكل معزل عن الواقع .. لكل من يعيش في عالمه الخاص .. خلني أوشوشك في أذنك .. "فوز النصر بالدوري مسألة وقت".
ولكن أحدا منا لن ترضيه الأرقام ولا الحقائق. سنجد من يصرخ في الهواء الطلق مثل الطرزان ليقنعنا بأن النصر تفوق بسبب الحظ والتحكيم. صحيح أن النصر كان محظوظاً هذا الموسم وفاز في عدد من المباريات دون أن يقدم مستوى يشفع له بالفوز، ولكنه فاز ولا يمكن أن تحقق بطولة ما لم يكن الحظ والتوفيق يقفان بجانبك.
صحيح أن التحكيم ساعد النصر في أكثر من مباراة، ولكني لا أتذكر فريقاً حقق بطولة الدوري دون أن تُحسب له ركلة جزاء مشكوك في صحتها. ولكن ميزة الفريق القوي أنه يستفيد من الحظ ومن الأخطاء التحكيمية أكبر استفادة ممكنة .. خلال هذا الموسم حصلت فرق كثيرة على ركلات جزاء وخسرت المباراة.
مشكلة الفاشل أنه يركز على عامل واحد فقط "خارجي" ويجعله السبب الوحيد للفشل "هذا إذا اعترف بفشله أصلا". ثم يقفز على الناجح وينسب نجاحه لعامل واحد متناسياً الجهود والتضحيات التي قُدمت قرباناً للنجاح.
التقليل من الناجحين حولنا لمجتمع مظلوم يعشق البكاء على الدرج. البكاء لا يفيد أحدا ولا يحول الفشل لانتصار. فالتاريخ يكتبه المنتصرون .. أما هواة الصياح والنياح فسيكتشفون بعد أربعين عاماً أن البكاء لا يفيد إلا شركات المناديل.
الحقيقة التي تعلمتها بعد سنوات طويلة، أن الناجح دائما يستحق النجاح وكذلك الفاشل يستحق الفشل بامتياز. ولكن ما لا أفهمه .. لماذا يحب السعوديون الفاشل أكثر؟.