ليس من المقبول أن نبالغ في ذم المركزية واعتبارها أسلوباً عقيماً في كل الأحوال. ففي بداية تشكل أي دولة أو أي جهاز إداري تكون المركزية أسلوباً ضرورياً لإدارة المرافق العامة والأنشطة بفاعلية وكفاءة، كما أنها تؤدي إلى توحيد النظم والإجراءات المتبعة في كافة فروع الجهاز الإداري؛ مما يمكن الموظفين من الإلمام بكافة الأوامر والتعليمات اللازمة لتنفيذ الوظيفة الإدارية. لكن بعد مرور سنوات طويلة من التشكل والاستقرار تصبح المركزية عبئاً على التنمية.
إن التوجه نحو منح الصلاحيات لإدارات الفروع في الوزارات للقيام بالأعمال التي كانت تحتكرها المراكز الرئيسية بات يسير بخطى بطيئة مما أدى إلى تأخر إنجاز الأعمال، وضعف الأداء. إن احتكار الصلاحيات وعدم تفويضها لها أضرار كثيرة فمع مرور الزمن تتحول المركزية الإدارية إلى أزمة تقتل روح المثابرة والإبداع لدى الموظفين في الفروع لأن دورهم ينحصر بتنفيذ الأوامر والتعليمات الصادرة من الإدارة العليا وعدم مشاركتهم فيها لاستئثار النخبة المركزية بسلطة اتخاذ كافة القرارات وتبادل المصالح فيما بينهم وكثيرا ما جاءت هذه القرارات غير متلائمة مع طبيعة المشكلات المراد حلها.
وفي بلد كبير كالمملكة تزيد متطلباته وتقتضي تنفيذ عدد كبير من المشاريع وإدارة الميزانيات المخصصة لها لا يمكن أن نتصور أن تدار من قبل أجهزة مركزية. ولا بد هنا من إعطاء المناطق صلاحيات أكثر من خلال إمارات المناطق مثلا ليتمكن المسؤولون في كل منطقة من التخطيط لاحتياجات منطقتهم والتنظيم والمتابعة لمشاريعها، وتحقيق التكامل فيما بينها.
إن تقليص مساحة الصلاحيات الممنوحة للفروع تؤدي إلى انشغال المسؤولين والقياديين في المركز الرئيس للمنظمة بالبت في المعاملات واتخاذ القرارات والإشراف على سير العمل اليومي بدلا من التفرغ لدراسة الاحتياجات ووضع رؤية مستقبلية وتحديد الأهداف الإستراتيجية، وفي كل هذا إشغال الإدارة العليا أو المسؤولين والوزراء بمسائل قليلة الأهمية على حساب المهام الأكثر أهمية. وقد برهنت تجربة ماليزيا على صدق التأثير الإيجابي للامركزية الإدارية بعد نجاحها من سبعينيات القرن العشرين في تحقيق جانب كبير من الأهداف التنموية في خططها الاقتصادية، وهي التي لم تكن في بادئ الأمر سوى دولة زراعية تعتمد على إنتاج السلع الأولية كالقصدير والمطاط ونخيل الزيت، واستطاعت أن تتحول إلى واحدة من الدول الصناعية التي تتمتع بالاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي وأن تحتل اليوم مركزا مرموقاً في الاقتصاد العالمي.