|


فهد عافت
مدام بوفاري "الرواية ليست حكاية"!
2016-10-19
أكثر من مرة قلت وكتبت، موقِناً، أن الكتابة عن الروايات يجب ألا تتضمّن سرد أحداثها، وأن مثل هذا النهج يسيء إلى العمل ويُحبط القارئ الذي لم يقرأ الرواية بعد.
أعترف: لا أظنني بعد اليوم قادراً على التمسك بهذا الأمر بالصلابة نفسها!،
و"غوستاف فلوبير" في روايته "مدام بوفاري" هو أكثر من نجح في هدايتي إلى مثل هذا الشّك!.
أصحّح دون حسمٍ مُطلق: الروايات العظيمة لا تفقد من عنفوانها شيئاً فيما لو حكينا أحداثها، حتى إنه يمكن لي تقديم هذه القاعدة بكثير من الحماسة وقليلٍ من الحذر: الرواية التي تفقد قيمتها بعد سرد حكايتها، رواية ليست آيلة للخلود!، وفيها من السّوس ما ينخرها!،
ذلك لأن الرواية ليست فقط حكاية!، وأن الحكاية ليست سوى أحد عناصر العمل الروائي، يمكنه أن يتقدّم أو يتأخّر من حيث الأهميّة في الترتيب، حسب طبيعة كل رواية، لكنه حتى لو حظي بالرتبة الأهم في الروايات، وهو ما يحدث في معظمها، إلا أنه من المعيب على العمل الروائي الاتكاء كليّاً على هذا العنصر فقط، والتَّخلّي عن بقية العناصر، بل إن العمل الروائي الفخم حقّاً، وشديد الثراء حقّاً، لا يمكنه إلا سحب عنصر "الحدّوتة" لمرتبة أقل من الصَّدَارة، وهو ما لا يحدث عادة في الروايات التي تتمتع بصفة "الأكثر توزيعاً"!،
بالرغم من ذلك، فإن حذراً يستأهل التقدير والتمسّك به، يقع علينا نحن الذين نكتب عن الروايات، فمن بين كل عدد ضخم جدّاً من الأعمال الروائية، يمكن الحصول على عمل واحد عظيم، يسمو فوق حكايته، ويتطاول، بتفوّقٍ عليها وبتوافقٍ معها!، وعليه فإننا فيما لو أبحنا سرد الأحداث لكل رواية، فإننا حتماً سنكسب ـ ككتّاب ـ إمكانيّة مواضيع أكثر، لمقالاتنا، مدفوعة الأجر!، لكننا ربما سنَحرِم عدداً كبيراً من القرّاء ـ الشباب غالباً ـ من قراءة روايات ممتعة، حتى وإن لم تكن فخمة وعظيمة!، وفي هذا يُمكن أن تُشْمّ رائحة جريمة متغطرسة!.
هذا فضلاً عن أن أمر حكاية الأحداث قد لا يَسْلَم من الأذى الكامن في أنفسنا، وربما قاد كل كاتبٍ عن كتابٍ إلى نقل ما رآه هو، بعيون أخلاقيّة أو اجتماعيٌة أو سياسيّة أو عقائديّة، فظنّ أن على الجميع أن يمتلك ذات العيون وأن ينظر من الشُّرْفَة نفسها!، وهو أمر يمكن لك متابعة تجليّاته، انحرافاً وحِرْفةً، فيما لو قرأت مرافعة الاتّهام والدّفاع والحكم في القضيّة التي تم رفعها على الروائي "غوستاف فلوبير" بعد نشره لروايته الخالدة "مدام بوفاري" أمام محكمة جُنح باريس، الغرفة السادسة، برئاسة السيّد "دي بارل"، جلسة 31 يناير، و7 فبراير، سنة 1857، وفيها نجد أن النيابة العامة في مرافعتها، قد سردت الحكاية، ثم بعد ذلك اقتطفت بين أهلة، ما رأت أنه يصلح للاتهام ويحثّ على الإدانة، وبالرغم من أنها لم تكذب في شيء، إلّا أنها، ومن منظورها، أعطت للرواية عنواناً آخر، رأت أنه الأجدر بهذا العمل: "قصّة زِنَا امرأة بالرِّيف"!،
وللحديث بقيّة غداً بإذن الله.