التقط مصوّر صورة لرولان بارت، وصف بارت المصوِّر الفوتجرافي بالماهر، فقد قرأ في الصورة نظرات دافئة حزينة وومضة حِداد، وكان رأيه أن هذه الصورة بالذات ردّته لنفْسِه، لكنه بعد فترة وجد تلك الصورة نفسها على غلاف كتاب، وجدها وقد تم التلاعب بها، بدت متجهّمة وشرّيرة: "لم يبق مني سوى وجه مُروِّع لا ينطق بسريرتي".
ولعلّ هذه الأذيّة التجاريّة من الناشر هي التي قادت رولان بارت لتأليف واحد من أجمل وأروع ما يمكن لك قراءته من كتب تتناول التصوير الفوتوجرافي، اسم الكتاب: "الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوجرافيا"، لم ينتقم رولان بارت ممن آذوه بتزوير التصوير، حزن قليلاً، ثم راح يتأمل ويكتب، وكأن قَدَر النوابغ تحويل الأذيّة إلى هديّة، ولأنه أحس برغبة "وجوديّة" حيال الفوتوجرافيا، أهدى كتابه لسارتر، إجلالاً لخيالاته.
ستلتقي بنفسك في هذا الكتاب، مع مراودات لا يمكن لها إلا وأن همّت بك وهممت بها مرّات كثيرة، حتى لو لم تجد كلمات مناسبة لصياغتها، أو أهملت شأنها لظنك أن حالاتها لا تحدث إلا لك ومعك وحدك، أو حسبت أنها عابرة وغير ذات شأن، لكن من منا وأثناء تصويره، بمشيئته ومعرفته أو بمعرفته فقط، لا يتصنّع أو يصنع لجسده وضعاً خاصاً؟.
لماذا وبمجرّد شعورنا بأن عدسة كاميرا تراقبنا، نتخذ وضعاً لا يخلو من تمثيل، ونأمل أن يتمكن الضوء من التقاطه حسب ما تخيلناه؟.
لماذا يغيظنا التقاط أحد ما صورة لنا دون درايةٍ منا، مع أن بإمكانه رؤيتنا بعينيه ساعة كاملة دون أن يهمنا الأمر؟.
ما سر القلق من الصورة الفوتوجرافية، وما سر السعادة فيها؟، فلسفة الولادة والموت كاملةً في ضغطة زر، ولمع ضوء، رولان بارت هذا داهية دواهي، وهو مختلف عن كل كتّاب الدنيا، يطرح أبسط الأمور، فيكشف عن تعقيداتها، ويتناول أكثر الأمور تعقيداً فيكشف كم هي بسيطة، ولا يمكن لك توقّع مواضيعه، ولا الزوايا التي يتناول من خلالها هذه المواضيع.
لكن وبما أننا نتحدث عن الصورة الفوتوجرافية، فمن سوء الأدب فيما يبدو لي، تجاهل كتاب آخر مدهش لسوزان سونتاغ بعنوان:"حول الفوتوجراف"، ولا أظن أن هذه المقالة السريعة تكفي لأكثر من الإشارة إلى أن الكتابين كنوز معرفية، وتأملات أدبية وفلسفية شديدة الزخم، لكن وما دمنا نلتقي كل صباح في هذه "البلكونة".. فالأيام بيننا، "وين تروحون مني؟"، سأعود لتناول كل كتاب على حدة بإذن الله، وأنتم وحظّكم، المقالات تصيب وتخيب، وسامحونا على التقصير والتصوير.