طرائف الشعراء لا تنتهي، رحم الله أستاذنا سليمان الفليّح، كم كان خفيف ظل، في يوم اشتكت له شاعرة من أن لصاً، قام بسرقة بيتها في غيابها، لم يترك سوى دفاتر أشعارها وأوراق كتاباتها، فكان تعليقه: هذا الحرامي قليل ذمّة بلا شك، لكنه يمتلك ذائقة شعرية رفيعة المستوى!، وراح يحكي لنا قصصاً مشابهة للصوص يقدّمون أفضل "لا قراءات" نقديّة في نتاج بعض الشعراء!.
ـ ومرّةً، في بهو فندق، جلس قريباً من طاولتنا، رجل غريب الهيئة، شعره منكوش، وألوان ملابسه فاقعة، ومتناقضة، وغريبة، يكاد يكون بنطاله سروالاً، ويكاد يكون سرواله سرياليّاً!.
أستاذنا سليمان الفليّح قال: هذا نصّاب كبير!، وقال مسفر الدوسري: هذا فنان كبير!، لم أعد متأكداً من منهما قال فنان ومن منهما قال نصّاب، لكن لنكمل على هذا الأساس، تراهنا عليه، والخاسر يدفع حساب قهوتنا، لكن كيف نعرف، كنا مجانين، ذهبنا إليه: يا سيّد، سامحنا، نحن في رهان حولك؟!، قال: أنا عازف موسيقى جديد في الفندق!، قال مسفر الدوسري: كسبتُ الرهان، وقبل أن يستسلم سليمان الفليّح، راح العازف يحكي، وقد أخذته الخيلاء: سبق لي أن عزفت وراء محمد عبدالوهاب، ومني أخذ بليغ الجملة الفلانيّة، ولا ينام حلمي بكر قبل أن يستفسر مني عن شيء!، أو أنه قال أشياء قريبة من هذا الكلام، وعندها صرخ الفليّح: نصّاااب، قلت لكم إنه نصّاب!.
ـ في بيروت، وعلى البحر، كنتُ ومسفر الدوسري، لحقتنا عجوز تتبعها عجوز تشبهها، قالتا إنهما قارئتا كف، ولمّا وافقنا، سحبت كل واحدةٍ منهما صيدها بعيداً عن الآخر، لم نبعد كثيراً، صخرة كبيرة كانت تفصل بيننا، وقد أركى كل منا ظهره عليها، قرأت العجوز كفّي، أبهرتني حتى كدت أصدّق ما لم أكن أصدّقه، كل ما في جيبي تقريباً راح ضحيّةً لذلك الانبهار!، نهضتُ متوقعاً أن أرى في عيون صاحبي ما في عيوني، وفجأة حلّت دهشة مكان دهشتي الأولى، وأزاح انبهار متلاطم الانبهار الأوّل، فقد وجدتُ العجوز الثانية مادّة يدها، مُسْلِمَةً كفّها لمسفر الدوسري وهو يقرأ لها ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهي منبهرة، مندهشة، غير مُصدِّقة!.
ـ عرض شاعر على مساعد الرشيدي ـ رحمه الله ـ قصيدةً، وطلب رأيه، أظنه سكت في الأولى؛ فأتبع الشاعر قصيدته بثانية وربما ثالثة، كانت القصائد موزونة ومقفّاة بشكل صحيح، لكنها لا تقول شيئاً، فكان أحد أجمل الردود النقدية التي سمعتها في حياتي، قال مساعد: "يا أخي.. قصائدك مثل تقرير المرور لحادث، كل شيء فيها واضح ومحدّد وقانوني"!.
كان مساعد الرشيدي ـ رحمه الله ـ شديد اللطف والرحابة مع الشعراء، حتى إنني أظن أن هذا أقسى ما قاله لأحدهم، وقد مضى الشاعر لا يعرف ما إذا كان هذا الرأي إشادةً أم إبادة...!.