الحديث كله عن القراءة من الكتاب، ذلك لأن القراءة في أصلها حضرت قبل الكتابة!، لكن الكلمة نفسها، كلمة "قراءة"، حبست فيما بعد معناها العام والمُطلَق لخدمة "الكتابة"، وصارت مرادفةً لها، ومتماهيةً فيها،..
هل يمكن للمشافهة أن تحل محلٌ القراءة؟!، ظنّي: لا، لا يمكن!،..
وكل ما أقوله ظنون، كثيراً ما تتغطرس هذه الظنون وتصير اعتقادات، بعضها يتغطرس أكثر، دافعاً بعض هذه الاعتقادات لتصير جازِمَة!، حاولت وأحاول وسأظل أحاول أن أُرجع أكبر قدر ممكن من اعتقاداتي إلى بيت الظَّن، إلى طفولتها الأولى حيث براءتها والمرح!،..
القراءة لم تحضر مُغتَصِبَةً للمشافهة، لا أظن أنه كان من أهدافها، والأكيد أنه ليس في مقدورها أن تحلّ محلّ المشافهة!،..
لكن ومن يوم أن حضرت الكتابة، اعتبرتها المشافهة عدوّاً لها، ليس بالمعنى الجارف في القمع، لكن بمعنى ما، أقل وطأةً، لكنه في نهاية الأمر يحمل غيظاً عدائياً، يكاد يحلم بثأر ما!،..
ولعل "الكتابة/ القراءة" بادلت المشافهة هذا الشعور، لكنه لم يكن أساسياً في مبادئها ولا أصيلاً فيها!، فإن حدث ذلك فقد حدث كردّة فعل، لفعلٍ حدث أصلاً نتيجة لسوء تفاهُم!،..
نعم، يُمكن للإنسان معرفة الكثير، وتشكيل ثقافة عامّة، وتأكيد وعي ما، عن طريق المشافهة، بل يمكنني بقليل من المُجازَفَة القول إن الثقافة والوعي وكسب المعلومات وحاجات أخرى كثيرة، يمكن الحصول عليها من المُشافهة تماماً كما يُمكن الحصول عليها من القراءة!،.
هذا لا يكفي!:
أظن أن أهم وأخطر عيوب المثقف عن طريق المُشافهة، هو عيب الغرور والتكبّر، من خلال الحسم والقَطْعِيّة!، فإن كانت هذه المَعَابَة المُخزيَة، تصيب رُبع المثقفين عن طريق القراءة، فإنها في المُقابِل تصيب ثلاثة أرباع المثقفين عن طريق السّماع والتّلقّي الشفهي!،..
القارئ أقلّ قطعيّة من المُستمِع!، وهو بالتالي أكثر تقبّلاً للآخر وانفتاحاً عليه!، هذه الرّعشة التي تكتسبها معتقدات القارئ، تظهر للآتي من المُشافهة وكأنها عيب!، في حين ينظر هو إلى نفسه عبر طبيعتها القاطعة والحاسمة على أنه مُكتمِل، وقويّ، وجبل لا تهزّه ريح!،..
لكن رعشة الظن وهزّة المُسَلّم به، هما من يُعطيان الإنسان القدرة على المُضي قُدُماً، والتدفّق دائماً، والاحتفاظ بالطفولة أبداً!، بينما يأنس الجبل الذي لا تهزّه ريحٌ إلى صلابته، مُتناسياً أنه وفي سبيل الحصول على هذه الصلابة قد تحوّل إلى حجر!،..
المُشافهة تمحو كل الشكوك الصغيرة في الحديث العام الممتد عبر التاريخ، وتُكدِّس العناوين القاطعة!، ذلك لأن الكلمة المسموعة تزول بسرعة بعد الكلمة التي تليها، فما الذي يبقى؟!، يبقى ما يكثر ترديده حتى يُحفَظ!، والمحفوظ في المشافهة يبدو وحيداً، لأن ما عداه تم نسيانه ومحوه وتجاهله، كما يبدو أصيلاً بحكم أنه كان قديماً وبالتكرار ظل مستمرّاً وبالحفظ أصبح جاهزاً لمواجهة المُستقبَل، لكنها مواجهة رفض وقمع وليست مواجهة قبول وعدالة!،..
المثقف الآتي من الكتابة والقراءة، يأتي والشكوك الصغيرة قائمة معه، ذلك أن الكلمات لا يمحو بعضها بعضاً!، فطالما أن هناك سؤالاً قد كُتِب وقُرِئ، فإنه سيظل مكتوباً ومقروءًا آلاف المرّات، وإلى الأبد، وكل الإجابات عنه والتأمّلات فيه لن تتمكن من نفيه أو إلغاء حضوره!،..
وعليه فإن عقليّة القارئ ليست هي أبداً عقليّة السّامع!، وبما أن العقليّة مختلفة، فالعاطفة والفهم والتعامل هي أشياء مختلفة بالضرورة!،..
ما يحدث اليوم عن طريق الإعلام، وشبكات التواصل، وتقنيات الكمبيوتر، يعمل في جزء منه على محاولة إحلال المُشافهة مكان القراءة، ببراءةٍ أو بسوء نيّةٍ لا يهم، مِن ذلك مثلاً حكاية تسجيل الكتب صوتيًّا، وعرضها للسماع، بعيداً عن القراءة، وفي حين يظن كثير من الناس أن ذلك بديل طيّب تستلزمه ظروف الحياة، فإنني لا أظن ذلك،..
القراءة فن قائم بذاته، فن شأنه شأن كل فن آخر، يمتلك عوالم لا تكتفي بمنح المعلومة وتشكيل المعرفة فقط، وهو ليس عدوّاً للمشافهة، لم يسلبها يوماً حقها في الحضور، ولن يفعل، هو ليس بديلاً لها، ولا بديلاً لأي شيء آخر، إذ ليس هناك فن أصلاً أتى بديلاً عن سواه، وإلّا لهاجمت العصافير بمناقيرها كل آلة موسيقيّة!،..
ما يحضر كبديل، يذهب ببديل آخر، طال الزمن أو قصر!،..
وكقارئ أختم بأغنيتي: لستُ جبلاً، وأريد للرّيح أن تهزّني!