- ربمّا لم يكن سطحيًّا أبدًا، ربما كان أكثر عمقًا مما نظن جميعًا، أتحدث عن ذلك الذي فسّر الماء بالماء!، لكن ويا للأسف، فإنه لا يمكن الوصول إلى حكم عادل بخصوصه، طالما أنه لم يؤلف كتابًا من عشر ورقات أو من ألف صفحة، يقول لنا فيه كيفية وصوله إلى هذه النتيجة، ويحكي حكاية التدبّر الذي أعاده في نهاية المطاف إلى النقطة الأولى، إلى ما كان وكنّا نعرفه منذ البدء!،..
- رولان بارت في كتابه الصغير "الغرفة المضيئة" فعل الشيء ذاته، لكن هذه المرّة فيما يخص الصورة الفوتوغرافيّة، وليس الماء، وكانت النتيجة النهائية لتعريف ماهيّة الصورة الفوتوغرافيّة، هي ذاتها المعروفة منذ البدء، كل ما تقوله الصورة الفوتوغرافية هو أن: " ذلك -كان- موجوداً"!،..
يمكنني تخيّل رولان بارت، يريح ذقنه على صحن يديه، وقد أخذت الذراعان وضع الرقم ثمانية، ويقول متنهدًا لكن ليس بحسرة: "أعرف نقّادنا: ماذا؟! كتاب بأكمله، لاكتشاف ذلك الذي كنت أعرفه منذ النظرة الأولى؟!"،..
- لكني أشهد كقارئ، بافتتاني في هذه الرحلة البارتيّة إن صح التعبير،..
كتاب "الغرفة المضيئة" رحلة فكرية ووجدانيّة وعاطفية، أقل ما يمكن القول عنها، إنها أثمرت كتابًا كل سطر فيه: عِرْق، وكل كلمة: نبْض!،..
- صحيح أنه وفي نهاية المطاف فسّر الماء بالماء، وأن الصورة الفوتوغرافية لا تقول أكثر، ولا أهم، من أن شيئًا ما، أو كائنًا ما، كان هنا!، لكن يا لهذه الـ "كان" من تدفّقات وتجليّات في هذا الكتاب المبهج والحنون!، أقول الحنون لأن رولان بارت حوّله بعاطفة عبقريّة إلى حكاية أُم!، ومن خلال صورة لأمّه، صاغ دنيا رائعة من التّأملات، والأسئلة الجسورة، والمفارقات الطريفة، والحسرات العميقة، والتدبّر الشفيف،..
- كتاب يلعب معك لا عليك!،..
تنزلق المفاهيم لأن الأسئلة مراجيح، واللعب طفولي حالم بشكل لا يُصدّق، حتى إن تواضع صاحبه قائلاً: "أنا حالم رديء، يبسط يديه عبثًا للاستحواذ على الصورة"!،..
والحقيقة أن بارت هنا، كما هو في كل مكان آخر، لكن هذه المرّة بمرح أكثر هَوَسًا، يبدو طفلاً همجيًّا، يصرف النظر فعليًّا عن أية معرفة، عن أيّة ثقافة، صادقًا في رفضه لأن يرث أي شيء من عينٍ أخرى سوى عينه!،..
- تفاصيل صغيرة تكشف فوارق شاسعة بين الرسم والصورة الفوتوغرافية من جهة، وبين الصورة الفوتوغرافية والمشهد السينمائي من جهة أخرى، قُدرة عجيبة على تخليص الصورة الفوتوغرافية من كل ما عداها، ومجابهتها وجهًا لوجه، بأسئلة تشبه أسئلة أطفالنا المُحرِجَة لنا!،..
- الفرق أن رولان بارت لا يُراوغ، ولأنه لا يراوغ فهو يراوغ!،..
هو أحد أكثر الكتّاب المتهمين بالمراوغة واللف والدوران والتحايل!، وهي تهمة أظنها مستحقة، ورولان بارت أحد أكثر الجديرين بها؛ لأنه وفي كل مؤلفاته، نعم يراوغ ليفاجئ الموضوع بعينين جديدتين، ويلف ويدور لأنه يتعامل مع مواضيعه كأنها أعمال نحت لا يمكن رؤيتها كاملة دون لف ودوران عليها وحولها!، ويتحايل بألف طريقة وطريقة ليصل لا ليعتذر، ليواجه لا ليهرب!،..
على الرغم من كل ذلك لم أجده يذوب عاطفةً، وإنسانيّةً، مثلما فعل في كتابه هذا، والعجيب أنه كتاب مُهمَل تقريبًا، كثيرًا ما يتم تجاهله عند الحديث عن كتب رولان بارت، وبالنسبة لي فقد وقعت عليه صدفة، وقعت عليه فطار بي!،..
- بعض الكتب، قليل من الكتب، يمكنها الانحياز لحلمك الطفولي بالسجّادة السحريّة، ورولان بارت سيّد من سادات هذا الأمر، ورأيي أن كتابه "الغرفة المضيئة" الذي فسّر فيه الماء بالماء، أحد أنجح محاولاته لغزل السّجادة ودسّ السحريّة فيها،..
- أظن أنني وخلال شهر واحد تقريبًا، تعرّضت لهذا الكتاب مرتين وهذه الثالثة، يمكن لمن يريد العودة ليوميات "بلكونتنا" الموقرة هذه، وجمع هذه المقالة مع مقالة أولى بعنوان: "الفوتوجراف"، ومقالة ثانية بعنوان: "أتهندم.. أبتسم.. وأموت"، ليحصل على صورة فوتوجرافيّة لافتتاني بهذا الكتاب الصغير، وشكراً.