ـ القراءة، سواءً كانت لرواية أو غيرها، قراءة أي كتاب، تقيم علاقة بين العين وما تراه من ناحية، وبين العين وما يمكن لها أن تراه بعد لحظة!،.
هذه واحدة من خصوصيّات قراءة الكتاب، لا يمكن لسماع الكتاب صوتيّاً الوفاء بهذه الخصوصية، مثلما أن مشاهدة فيلم سينمائي يُمكن له أن يقص عليك رواية كاملة، لكنه أيضاً لن يُقدّم للعين والمخيلة هذه الخاصيّة، خاصيّة الاستباق!،.
ـ عمليّاً، العين تقتنص الكلمات على شكل مجموعات، وليس كلمة بعد أخرى كما يُظَنّ!،.
ـ في ثُلث ثانية أو أقل، تُسجِّل عين القارئ ست أو سبع علامات استباقية!، بفضل رؤية جانبيّة، تخترق ما نظنه رؤية خطّيّة، عبر قفزات مُباغتة وغير مُنتظِمَة!، ولعل هذه الحقيقة المثبتة علمياً هي أهم ما قدمه "فانسون جوف" في كتابه: "القراءة"!،..
ـ العين القارئة، عين قادرة على اقتناص الزمن والقفز فوقه، حتى لو كان ذلك بأجنحة الاحتمالات والظن!،.
ـ ذاكرة القارئ لا تحتفظ فقط بما مضى، بل تُمسك بما يأتي قبل أن يأتي، بالتعوّد والدُّرْبَة والمِرَان يِمكن لعين قارئ الكتب في كل لمحة اقتناص أكثر من عشر كلمات لاحقة، عن طريق التوقع وما يسمح به الذّهن من تأطيرات!، وفي كثير من الأحيان تكون العين القارئة مُحقَّة فيما ذهبت إليه، فإن أخطأَتْ يتكدّس المفهوم الاستباقي فوق الكلمات الحاضرة، ليمنح الكتابة أُفقاً آخر، يتسّم بالقلق، لكنه قلق برّاق، يُنمّي التركيز واليقظة!،..
ـ قراءة الروايات الجيدة، تُشعرك بأنك لست وحيداً، لست وحيداً في أهم نقطة في حياتك، في مشاعرك وأحاسيسك!، وهو ما يحقق سعادة فائقة، لدرجة يصعب وصفها لمن لم يدخلوا التجربة، ومع ذلك سأحاول وصفها، آملاً فقط ألا يكون الفشل ذريعاً!:
ـ سأنقل أولاً جزءاً من رسالة تم تداولها في الواتساب بشكل واسع، تتحدث عن أشياء اشترك معظمنا في القيام بها أيام الطفولة، جزء من الرسالة:
" أيام زمان.. كانت حياة جميلة.. الله عليك يا زمان:
* كنا ننتطر سنة رابعة ابتدائي حتى نكتب بالحبر!.
* يوم كنت صغيراً، رسمت الشمس في زاوية الورقة!.
* تُغلق باب الثلاجة "شوي.. شوي" فقط لتعرف متى تنطفئ اللّمبة: ذكاء!.
* حاولت أن توازن مفاتيح الكهرباء بين ON وOFF"!.
-هذه الرسالة ومثلها كثير، يتم تداوله، فنفرح لأننا نكتشف جماعيتنا في وِحدة كل منّا!،.
نفرح لاكتشافنا أن جزءاً من "شيطنتنا" إنما هو عام، وعموميّته هنا لا تُنقص من خصوصيّته شيئاً، على العكس تماماً: تمنح هذه الخصوصيّة طاقة للتقدّم والكشف أكثر وأكثر عن خبايانا، التي نشعر بالأمان، بأمان حقيقي، حين يتأكد لنا مشاركة عدد كبير من الناس لنا فيها!،..
ـ قراءة الروايات الجيّدة، تفعل هذا بقارئها، وعلى مستويات أعمق من السعادة واللّذّة!؛ ذلك لأنها تكشفنا لنا عبر الآخرين، والمستوى يكون أعمق والمُتعة أكبر؛ لأن صِلَة الرَّحِم هذه المرّة، تكون في المشاعر والأحاسيس، في أفعال النَّفْس وليس في أفعال الجسد فقط!،..
ـ قارئ الروايات الجيّدة، يكتسب حصانةً، ويحظى بأمان كَوْنِي، يصير معه أكثر جَسَارةً وقدرة على التعبير عن مكنوناته لمن هم حوله!، وفي هذا شِفاءٌ من عِلَلٍ نفسيّة، تكون أخطر ما تكون حين تكون غير مرئيّة أو غير مُعتَرَفٍ بها!،..
ـ قارئ الروايات الجيّدة، يكتسب مرونة عاطفيّة جديرة بجعل حياته أكثر تناغماً وسلاماً ومصالحةً وتسامحاً وعفواً!؛ ذلك لأن الروايات الجيّدة، تمنحه الوقوف في أماكن متعددة ومتناقضة، مُبْدِيَةً له في كل شخصيّةٍ يتابعها أسباب حياة ومبرّرات بقاء، وفهم تصرّفات وأفعال، فهماً حقيقياً يتخطّى الحدث ويدخل في تفاصيل تفاصيله الصغيرة، ليخرج منها بُمسامحات كبيرة، وبما يشبه عفواً عاماً عن معظم الناس، إذ من المستحيل والخطأ أيضاً العفو عن الجميع!، لكن هذا ما يحدث لقارئ الروايات بالضبط: يصير صدره أوسع، ويظل قابلاً للاتّساع؛ ذلك لأنه يفهم ويتفهّم دائماً أحوال الشخصيّات وتحوّلاتها!، ولأنه ما من شخصيّة روائيّة مُعتَبَرَة إلا وفيها جزء من القارئ، بما في ذلك أكثر الشخصيات قسوةً وتهتّكاً!، ومن خلال اكتشاف القارئ لما فيه، أو لما يُحتمل أن يكون فيه، يعذر الآخر، ويتقبّله، وفي الوقت نفسه ينتبه لذاته ويُحصّنها، أو يزيد من فضائلها!،..
ـ الرواية واحدة من أكثر الأشكال الفنية والأدبية قدرة على تحفيزك، برضاك أو رغماً عنك؛ لإعادة النظر في البديهيات، في ما تآلفت معه على أنه بديهي وطبيعي!.