ـ تذكرون الصورة التي انتشرت انتشاراً واسعاً قبل فترة، والتي تخص الطفلة العراقية الهاربة من الدمار، تلك الصورة التي سُمّيت فيما بعد "موناليزا الموصل"، ضعوا هذه الصورة في بالكم إلى نهاية هذه المقالة!0
ـ ظهرت الكاميرا، وأوّل من ناصبها العداء كان الرسم!.
ـ على السطح كان العداء خوفاً من قطع أرزاق الرسّامين، لكن في العميق الجميل بأخلاقيّاته كان الخوف من إمكانيّات الآلة التي وبالفعل لم تأخذ وقتاً طويلاً حتى كشفت عن إمكانيّات من شأنها إلغاء الفواصل بين المهارة والحظ!، وليس أكثر صراحة ووقاحة من إعلان أوّل كاميرا كوداك: "اضغط الزّر ونحن نتولّى الباقي"!، وبالفعل أمكن لبعض الناس فيما بعد تدريب حيواناتهم على ضغط الزّر، فأنتجت صوراً!.
ـ بين السطح والقشرة حمل الصراع خلافاً ثالثاً: الصورة لا تضيف شيئاً، تكتفي بنقل الواقع، تقدّم معلومات ولا تمنح فهماً، إنها صادقة أكثر من الحدّ الذي يمكن معه للفن أن يكون فنّاً!.
ـ هذا الخلاف الأخير، تحوّل فيما بعد إلى مجرّد اختلاف؛ ذلك لأن المصوِّر الفوتوغرافي نجح عبر استخدام الضوء الصناعي، واختيار المكان أو حتى صناعته كديكور وخلفيّة، ومُعطيات أُخرى كثيرة، في اختراع الحدث وليس فقط تسجيله، ولمّا صار التصوير أكثر قدرة على الكذب صار فنّاً!.
ـ ثبات الصورة يمنح وهماً بالخلود أولاً، فبالرغم من الحس الرثائي المرافق لكل صورة، بحكم أنها لحظة لن تعود، إلا أن ثبات الصورة يعني أمرين غاية في الأهميّة:
ـ الأول: الإحساس بالخلود لأن كل ما في الصورة يبقى على ما هو عليه طالما بقيت الصورة، فإن أصاب ورقتها بعض العطب، لا يتغيّر شيء مما هو مُصُوَّر، بل ربما استمدّت الصورة في هذه الحالة طاقة جديدة من فن العُمران، حيث لا دليل شديد العاطفة على قِدَم بناء أكثر من رتوش زمن مُشَوِّهة له بعض الشيء!.
ـ الأمر الثاني: ثبات الصورة حتى وإن أكسب التصوير دمع المرثيّات، فإنه يهب الطمأنينة والأمان، ربما لذلك يمكن لك رؤية هتلر في صورة فوتوغرافية وتجده فيها وديعاً وأقل خطراً بعشرة ملايين درجة مما هو في واقعه، سبب ذلك أن الصورة ثابتة، لن تتحرك، لم تعد قادرة على إعطاء أوامر أو إلقاء بيانات أو إصدار قرار، إنها آمنة تماماً!.
ـ حالة الأمن هذه، شكّلت واحدة من أهم مخاطر الصورة الفوتوغرافية، على المستويين النفسي والأخلاقي، فقد ثبت بالتجربة، وهو أمر يمكن لأي منا ملاحظته في نفسه، أن الغضب مسألة مقرونة بالتعوّد!، ما نعتاد عليه لا يعود مُغضباً، ثم لا يعود مُشِيناً ولا سيِّئاً، وبعد قليل لا يعود مرفوضاً أصلاً!.
ـ هذا ما يجعل من تصوير المجاعات والعذابات ومشاهد القتل والتهجير خطراً على إنسانيّتنا، فبإعادة النظر إلى الصورة وتكديس المشهد وتكرار المُشاهدة، تنقلب مسألة إيقاظ الضمير الإنساني على أعقابها وتصير تخديراً لهذا الضمير!، صيحة سوزان سونتاغ مُرعبة: ما إن يرى المرء مثل هذه الصُّوَر حتى يبدأ في رؤية الكثير منها، ورؤية الكثير تَشُلّ وتخدِّر!.
ـ لمن يسألني: وما الحل؟!، الجواب: لا أعرف، فقط أطرح ما أظنه ورطة وإشكاليّة!.