|


هدى الطويل
"العائد"
2017-05-21

صفية.. هذه حيفا يا صفية.. إنني أعرفها.. حيفا هذه.. ولكنها تُنكِرني.. لم أكن أتصور أبدًا.. أنني سأراها مرةً أخرى".

غسان كنفاني / "عائد إلى حيفا"

سواء كان المنفى جبرًا أو اختيارًا، أظن أنَّ كل "قصص العودة" تكمن قدسيتها في جانب "الغياب" فيها، أكثر من جانب العودة. في جانب أولئك الذين "ذهبوا"، فشكلت لحظة غيابهم أو ذهابهم سر جماهيريتهم، وسر تعاطف الآخرين معهم.

قد نتعلق وجدانيًّا بـ "الغائب"، لكن ماذا عن هذا التعلق إذا ما عاد يومًا وأصبح "العائد"؟!.. هل نستمر في إضفاء ذات الهالة لذات القصة، أم أنَّ لحظة العودة تسرق منها قدسيتها السابقة؟!.

في كل قصص العودة، هناك ثلاثة نماذج رئيسية يتم رصدها عادةً: أولها "النموذج الرومانسي"، ويتعلق بأولئك الذين "يترقبون" عودة "الغائب"؛ انطلاقًا من ارتباطهم "العاطفي" به. أما النموذج الثاني، فهو "النموذج المقاوم"، وهم أولئك الثائرون على النموذج الرومانسي، والذين يؤمنون بمسألة تنحي العاطفة، والإبقاء على سلطة العقل مصدرًا وحيدًا للأحكام. ببساطة.. المقاومون هم أولئك "المتوجسون خيفةً وريبةً" من "العائد". أما ثالث النماذج وآخرها، فيتعلق بشريحة عمرية مختلفة عن شريحتي النموذجين الأولين، عادةً هم من جيل مختلف، تتجاذبه مسوغات كلا النموذجين السابقين، على اعتبار أن أصحاب النموذج الرومانسي، والنموذج المقاوم، هم من جيلٍ واحد، عاصروا مرحلة ما قبل الغياب معًا، واختلفوا في اتجاهاتهم ورؤاهم بعد العودة.

تنقسم الفئات الثلاث حيال مسألة "عودته"، يختلفون تحديدًا حول الجانب "التخيُّلي" لهذه العودة؛ فبينما يتبنى الرومانسيون منهم النظرة "الظواهرية" فلسفيًّا، تلك النظرة التي تُنكر أن تخيلاتنا لا ترتبط إلا بالواقع فقط، وأنها ليست مجرد معرفة، وأنها ترتبط أكثر بشعور الفرد وبحالته النفسية تجاه الفكرة محل التخيُّل، فإن الفئة الثانية، فئة المقاومين، لهم رأيٌ آخر في ذلك، هم قريبون فكريًّا من الناحية الفلسفية مع آراء المدرسة التجريبية، يعتقدون كما اعتقد شخص مثل ديڤيد هيوم أن الخيال ما هو إلا مجرد تركيب لما في التجربة الحسية، والعالم الخارجي، ويستمد هذا الخيال عناصره من هذا "الواقع" فقط. فمثلاً حين نتخيَّلُ حصانًا بأجنحةٍ، فإنَّ تخيَّلنا هذا لم يتخطَّ حدود الواقع؛ لأن الخيال هنا عبارة عن تركيب للجناح والحصان اللذين أُخذا من الواقع أو التجربة، وأنَّ العقل هنا لا يخرج عن حدود معطيات هذا الواقع وهذه التجربة، ولا يمتلك أي قدرة من الأساس على إبداع، وخلق موضوعات ليست من الواقع.

في الأسبوع الماضي أعلن أنه "سيعود".. تشابكت أصوات الفئات الثلاث في الفضاء، وعبر مواقع التواصل، كل حزبٍ وفق ما لديه يُفنِّد، لفت انتباهي بشكلٍ عميق، تعليقٌ صارخٌ لأحدهم، وهو بالمناسبة ـ كما أرى ـ ينتمي لأصحاب النموذج الثالث، "النموذج المتردد"، قال فيه: "يفي ولا يعد.. ببساطة هو رجل "مهايطي".. لكن إذا ما جاءت الانتخابات.. فإنني لا أستطيع أن أثق إلا به".

وسط هذه الدوامة، يُشكِّل "العائد" لأحدهم خصمًا، ومن الممكن بمكان أن يُظلم هذا "العائد" ويتجنَّى الآخرون بحقه، متى ما غلبَ جانب الشخصنة في إطلاق الأحكام عليه. 

عُرفَ عن غسان كنفاني أنه أول من "أنسن العدو"، واستهجن الكثيرون عمله هذا في حينه، ولكنه غسان، وليس الجميعُ "غسان". مع هذا في زمننا الحاضر، لم تعُد قصص "العودة" ملهمةً كثيرًا، أو أنها تستحق الانتظار حتى. أعتقد أن الأمر يتعلق بمسألة النضج أكثر، فقصص كقصة عودة "أوديسيوس" أو "العودة إلى سدوم"، فقدت الكثير من بريقها بتقادم السنين، وتغيّر الأمزجة، حتى إن عاودت "سدوم" ظهورها في كل حقبة، وتجلَّت في كل مرحلة، وحاولت تجديد نفسها بنفسها، أو غيرت اسمها وموقعها، ستظل هي "سدوم" تحافظ على ذاتها، وإن تغيَّر شكلها، وتبدَّل عمرانها، وذهنية سكانها.