ـ ثلاثة أيام، أُقلّب مكتبتي، بحثاً عن كتاب "رسائل فلسفيّة" لفولتير، كان الصديق العزيز الشاعر والكاتب والمثقف الرزين سعود الصاعدي قد سألني عن معلومة سبق لي كتابتها أكثر من مرّة، وهي أن تفّاحة نيوتن ليست سوى حكاية من اختراع فولتير، أراد صاحبي مصدرها، ومصدرها "جون لي" الذي قام بتقديم كتاب فولتير، ومكتبتي وإن لم تكن فوضويّة إلا أنها غير مرتّبة!، كل يوم أسحب من رفوفها كتباً ثم لا أعيدها إلى مكانها الصحيح!.
ـ أخيراً وجدت الكتاب، وأرسلت لصاحبي المعلومة من مصدرها: كتاب رسائل فلسفية لفولتير، ترجمة عادل زعتر، دار التنوير، تقديم جون لي، الطبعة الأولى، الصفحة 17: "في الحقيقة كان فولتير هو أول من اختلق القصة الشهيرة المتعلّقة بتفاحة نيوتن، التي أخبرتها له ابنة أخته، أدرك فولتير على الفور قيمة الحكاية الصغيرة بحجم القضمة"!، هذه المعلومة باختصار، ذلك لأن فولتير يُطيل الحديث عن نيوتن وتفاحته بدءاً من الصفحة 112.
ـ كانت فرصة طيّبة لتقليب الكتاب من جديد، ومخافة أن يضيع بين الكتب مرّة أخرى، قررت أن أحدّثكم عنه:
ـ سبق للمحكمة الفرنسية أن حكمت بجمع نسخ كتاب فولتير هذا، وإحراقه، فقد أحدث ضجّة وبلبلة، وربما لأن فولتير فضّل فيه الإنجليزي نيوتن على الفرنسي ديكارت، تفضيلاً يسخر من ديكارت، عُدّ ذلك خيانة وطنية!.
ـ ولأسباب أكثر زلزلةً صدرت الأوامر باعتقال فولتير، لكنه تمكن من الهرب، أما الكتاب فبالرغم من تمزيقه وإحراقه، إلا أنه انتشر بين الناس وكأنه منشور سرّي!.
ـ فيما بعد أصبح كتاب رسائل فلسفية مع بقية كتب فولتير، أوراقاً مُلهمة للثورة الفرنسية!، وهو ما تنبّأ به فولتير في الرسالة الثامنة عشر: "الزّمن، وهو الذي ينال الرجالُ به بُعْدَ الصِّيت وحده، هو الذي يجعل عيوبهم أهلاً للاحترام"!.
ـ يحتاج القارئ العربي، إلى قليل من الصبر، للإبحار في رسائل فولتير الفلسفية، لن يندم من يصبر على صفحات قليلة أولى ربما يظن أنها لا تهمّه، بعد ذلك سيجد نفسه أمام فولتير وجهاً لوجه، يتأمّل معه ويحاوره، ويأخذ منه زيتاً لقناديل لم يكن يحسبها صالحة للتنوير: "الكاتب والقارئ يقابلان بعضهما بشكل مثالي في منتصف الطريق"!.
ـ حتى لو لم تتفق مع فولتير في بعض أفكاره، فإنه لا يمكن لك سوى تقديره، وإجلال عمله، وهو على أية حال لا يستاء من عدم موافقتك له، فقد فعل الأمر نفسه مع آخَرين في رسائله: "أُقدِّر عبقرية بَسْكال وبلاغته، ولكنني كلما قَدَّرتُها، قَنِعْتُ بأنه كان لا بدّ من تصحيحه، أي أنني إذ أُعْجَبُ بعبقريته أُناهِضُ بعض أفكاره"!.
ـ تظل واحدةً من أجمل نصائح فولتير، لكل من يريد تدبّر أمراً، مُقَابَلة آراء العباقرة في هذا الأمر، يكتب: "لا أعرف ما هو أنفع لإكمال الذّوق من المقابَلَة بين أكابر العباقرة الذين تناولوا عيْن الموضوعات"!.
ـ برشاقة بالغة وبليغة، يتنقّل فولتير عبر رسائله الفلسفية، بين الدين والسياسة والفلسفة والتاريخ والجمال، بما لا يدع لك مجالاً للملل، ولا قدرة على طي الكتاب قبل الانتهاء منه، فقط أكمِل القراءة، جرّب أن تترك نفسك لساعة واحدة مع هذا الكتاب، ولسوف تتغيّر بعدها الأوقات!.
ـ يعرف فولتير أن "عدد من يُفكّرون قليل إلى الغاية"، والرائع أنه في كتابه هذا، لم يتوجّه إليهم فقط، أراد أن يجعل منهم أكثر، وقد نجح في مسعاه دون شك، لكنه أنجز عملاً بديعاً، يمكنه زيادة العدد مع كل قراءة جديدة!.