ـ واحد من أسوأ مشاهد التدبّر الفنّي: ناقد يسحب النَّظريّة من أُذُنَيْها، يريد منها أنْ تعمل "رقيباً" على العمل الفنّي! وأن تكون وَصَيّةً عليه، أوعليه وعلى مُتَلقِّيه معاً!..
ـ مثل هذا المشهد، على وضوح غطرسته وسذاجته، يتكرر كثيراً، خاصةً في برامج التلفزيون ومقالات الصحافة!..
ـ ليس لعيب في التلفزيون أوفي الصحافة، لكن ربما لأن طبيعة كل منهما، تُقاد بمواعيد الوظيفة، وتتعامل مع ما هو لَحَظِي بالضرورة!..
ـ المواعيد الوظيفيّة، لا تنتظر فكرةً نقديّةً، أو جماليّةً، لتكتمل، إذ لا بدّ من تسليم المادّة في وقت محدّد، كما أن مساحة الحركة محسومة سلفاً!..
ـ كاتب المقالة يعرف أنه مُلزم بعدد من الكلمات، حسب مساحة الزاوية، وللبرنامج التلفزيوني من الوقت مُدّة محدَّدة لا يمكن تجاوزها!، وعليه فإن صحافة الورق والتلفزيون، مُلزِمَة بشكل أو بآخر، بعدم تجاوز المساحة والوقت، مثلما هي مُلزِمَة بضرورة استكمالهما، حتى لوكان ذلك عن طريق الحشو والثرثرة المجّانيّة!..
ـ برنامج مدّته نصف ساعة، أو مقالة محددة بخمسمائة كلمة، أي منهما لا يقدر على التفلّت من شروطه "الوظيفيّة": المساحة والمُدّة وتوقيت التسليم!، كل هذا يضرب رأس "الحِكمة النقديّة" بما يجعلها في دَوْخَة ودَوَار!، والخروج بسلام من هذا المأزق لا يتحقق إلا في حالات نادرة، لا يُعَوَّلُ عليها!..
ـ حسْبُ النقد إنْ هو تحرّك في مجال وظيفة شهريّة، براتب أو مُكافأة مُوقّع عليها من قِبَل طَرَفين، أن يُشير وأن يُرشِد بتواضع جَمّ، يتطلبّه الشرط المِهَنِي العام، قبل أن تُنادي به الأخلاق الخاصّة!، وقبل أن تكون مسألة الإرشاد والإشارة في حقيقتها أصلاً من أصول النقد الفنّي، ما أن يتم تجاوزهما حتى يبدأ الشطط والغلط!..
ـ هنا تأتي أهميّة الكُتُب!، فمؤلِّف الكتاب ليس ملزماً بوقت أو مساحة، يمكنه تأليف كتابه في ستة أشهر أوست سنوات، كما يمكنه الانتهاء منه وقت الإحاطة بالفكرة كاملة، سواءً كان ذلك في ثمانين صفحة أو أقل، أوفي ألف صفحة أو أكثر، على الأقل فإن هذا هو المُفتَرَض!..
ـ حتى تلك الكُتُب التي يجمع فيها أصحابها عدداً من مقالاتهم الصحفيّة، يمكنها النّجاة، لأنّ الكاتب حينها، انتقى عمداً، ودون ضغط الوقت والمساحة والحاجة للقمة العيش، عدداً معيّناً من هذه المقالات، رأى أنه مهم، وناضج بما يسمح له بديمومة البقاء، على الأقل فإن هذا هو المُفتَرَض!..
ـ يمكن للصحافة الورقية والتلفزيونيّة نقل الأخبار أولاً بأوّل، غير أن نقل الأفكار أجمل بأجمل، فوق طاقتها وإمكانياتها، وشروط حركتها!..
ـ وأظنّ أن واحداً من أهمّ أسباب التصلّب في الرأي، والقصور في الرؤية، كان بسبب الثقافة المُستَمدَّة من الصحف والتلفزيون، المكتفية بهما!..