كل فوز دون منتخب البلاد هو "فوز ناقص"، الخالدون في ذاكرة تاريخ كرة القدم هم أولئك الذين جعلوا أوطانهم فوق الجميع، الذين قالوا للهزيمة: "نحن أحسن منك حالاً، وأعزّ قدراً"، وهزموها، ثم ركبوا فوق ظهرها ليرقصوا احتفالاً بالمجد، إمعاناً في إذلالها.
ولهذا يقاتل اللاعبون من أجل أن يرتدوا قمصان منتخبات أوطانهم، ثم يخوضون قتالاً أشد لينتصر هذا المنتخب.. هي معركة، نعم معركة بين بلدين، يهزم فيها الأعز الأذل "كروياً"، وإذ به إمبراطوراً على القارة كلها، أو ملكاً لهذا العالم كاملاً.
ولذلك مازال ليونيل ميسي حزيناً، على الرغم من هذه الثروة الضخمة من البطولات، والألقاب، والكؤوس التي حصدها بقدميه الساحرتين لناديه الكاتالوني برشلونة، كان قادراً على أن يجعل الدهشة تبلغ ذروة اِنتِشائها، بلمسة أو لمستين، وأن يمنح المُتعة نصيبها من اللقطة بتمريرة بيسراه الأشبه بـ"لسان حية تسعى"، فعل وما زال يفعل هذا اللاعب العظيم كل شيء خارق، إلا الفوز ببطولة لمنتخب الأرجنتين، ولذلك ظل مجده قاصراً، وهو يعلم جيداً أنه إن لم يفعلها لبلاده فلن يتَذَكَّرهُ التاريخ، وإن تذكره فسيُذكِّرهُ دائماً بهذه الهزيمة الثقيلة.
ولهذا سقط نصف العبء عن كاهل قرينه في السمو، والوهج، والفخامة، كريستيانو رونالدو حين ساعد بلده البرتغال "قائداً لها" في الحصول على كأس بطولة أمم أوروبا.. هو أكيدٌ الآن أن التاريخ لن ينساه، لكنه يريد من هذا التاريخ أن يذْكُرَهُ فيمن عنده، لا أن يتذكره فقط، ولهذا يخوض حرباً "تفوح منها رائحة الخسارة دائماً" للفوز بكأس العالم، يحاول ذلك رغم يقينه أن الأمر لا يمكن إنجازه من دون وجود سمعة "قديمة" جيدة لبلاد "فاسكو دا جاما" في قوائم أكبر بطولات الكرة الأرضية.
إنها كرة القدم، الوجه الآخر للسلطة، وبسط النفوذ على هذه الحياة، حيث يمكن أن تكون بلادك موضع إجلال، وسبباً في أن يقف العالم كله احتراماً لها.. فمتى يفهم اللاعب "السعودي/ الخليجي/ العربي" أن اللعب مع منتخب وطنه، ليس أمراً هيناً، ولا مهمة سهلة، وأن عليه أن يقاتل ليصبح لاعباً أساسياً فيه، ثم إن يبذل قلبه وأقدامه و«إقدامه» في الملعب ليذهب به ومعه إلى منصات التتويج والفخر.. متى يفهم هذا اللاعب أن الثروة الحقيقية ليست التي يجمعها في ناديه، وإنما التي يتركها وراءه حين يُتْلَى تاريخ الكرة في بلاده.. أمر مبهج حقاً أن يحملك أنصار فريقك على أكتافهم، لكن ما هو أجلُّ منه أن تحمل أنت بلادك على أكتافك وتصعد بها سلماً نحو السماء، ليراها العالم، كل العالم.
في كتابه "أنا دييجو الناس".. بدأ الأرجنتيني الخالد، اللاعب الذي لم تلد كرة القدم صبياً قبله ولا بعده بسحره وفتنته وعبقريته "دييجو أرماندو مارادونا" قصته برسالة كتبتها له سيدة أرجنتينية، وفي الرسالة المعنى المبهر لكرة القدم، المعنى العميق لتأثيرها، المعنى الإنساني لما يمكن أن تفعله بالحياة حين تكون على حافة الموت أو الانهيار: "دييجو.. رأيت زوجي يبكي ثلاث مرات، الأولى: عندما أنجبتُ ابننا ناتشو، والثانية: لحظة سجلتَ الهدف الثاني في مرمى المنتخب الإنجليزي، والثالثة "الأخيرة" حين قرروا استبعادك من كأس العالم 1994، لتعاطيك المخدرات!
لم يبكِ من أجلي أبداً، لكنه بكى بسببك ومن أجلك مرتين،
بل إنك السبب في أن دماءه ما زالت تتدفق في أوردته، فكل الانفعالات التي هزته، وتهزه كنت أنت وراءها.
أعترف أنك أثرت غضبي مرات عدة، بغرورك وقذارة لسانك..
وأعترف أنني لا أفهم إلا القليل جداً عن كرة القدم، ولا أريد أن أفهم أكثر من ذلك، لكن هناك أمور تجعلني أجزل لك الدعاء، كل مساء، ولها علاقة مباشرة بشخصيتك، فهل تعرف لماذا أفعل ذلك؟!..
الأمر واضح جداً دييجو.. عندما مرت بنا تلك الأيام التي لم نجد فيها شيئا نأكله، غمرتَ قلوبنا بفرح عظيم، كانت تلك أيام الرئيس راؤول، حيث عمت الفوضى البلاد في عهده، كان الجوع يأكلنا.. والشتاء قاسٍ ومُريب على غير عادته، والخوف باسط رداءه في الشوارع، وزوايا الحدائق المظلمة، والحارات المحاصرة بصمت قاتم، لكن الفوز بكأس العالم في ذلك العام، كان هدية من السماء، كان الفرح بالفوز عارماً، ومشاعره طاغية، لقد أباد الألم تماماً، وأنعش قلوبنا، وأعاد الحياة لنا وأعادنا إليها مرة أخرى.. كنت أنت يا مارادونا السبب في عودة الفرحة إلى عائلتي، وعندما أسأل الآن زوجي وابني عن ذكرياتهما في ذلك العام، لا يذكران إلا اسمك، ويتحدثان عنك بسعادة غامرة، وبعينين دامعتين، نسيا الجوع والألم الذي كابدناه حينها، وتذكراك أنت وحدك.
صحيح أنك ثرثار، ومتغطرس، لكن لحظات الفرح القليلة التي عاشتها الأرجنتين في العشرين سنة الماضية كانت دائماً مرتبطة بك.. صعب في الأرجنتين أن نتفق على حب شيء، أو أن نبكي من أجل شيء، ونحارب من أجل "أرجنتينا" دون أن نشعر بالألم في صدورنا وننفجر إن لم نكن الأفضل.
لمَّا منعوك من مواصلة اللعب في كأس العالم 1994، مشيت في الشوارع، لم أرَ الناس تبكي في حياتي كلها كما فعلوا في ذلك اليوم، لقد كانوا يجرون أقدامهم الثقيلة خلفهم في الأزقة والممرات، والدموع تنهمر في صمت رهيب!
بلادنا التي نحب أصيبت بالشلل، وقلت في نفسي: أي شعب نحن؟!.. ويومها شعرت بالفخر لأن دماء كهذه تجري في عروقي أيضا، لذلك بكيت مع أنني لا أعرف لماذا أبكي؟!..
يضع ابني الصغير الذي "لم يشاهدك ترفع الكأس" صورتك في غرفته، ويتحدث عنك كما لو أنه شاهد كل مبارياتك.
عزيزي دييجو.. لقد منحتَ بوجودك في الحياة شعباً حزيناً بعض السعادة، فلماذا لا أبكي وأصلي من أجلك!".