أقرأ لرولان بارت "الغرفة المضيئة"، ولسوزان "فوتوغرافيا"، ولستيف إدواردز "مقدمة قصيرة عن التصوير الفوتوغرافي"، وكتابين آخرين، وأتذكّر قليلاً من بوح صلاح العزاز اللطيف عن الكاميرا والتصوير، فتتشكّل لدي نظرة، ويصير لي رأي متماسك إلى حدٍّ ما، في ما يخص التصوير الفوتوغرافي، وأفكِّر: في ما لو لم ألتق بصالح العزاز رحمه الله، والتقيت بمصوّر فوتوغرافي آخر وأحببته، وفيما لو لم أقرأ تلك الكتب وقرأت غيرها، فهل سيكون لي نفس الرأي وذات النظرة، وماذا عن الشغف والرغبة، يزيدان أم ينقصان؟!، الأكيد أن أشياء ستتغيّر وتتبدّل، وهناك احتمال أن تنقلب!..
ـ أقرأ لنزار قباني في سن المراهقة، فأطرب، يمكنني القول إنه لم تصبني نشوة أبدًا مثل تلك التي أحدثها فيّ نزار وأنا بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة من العمر، لكني أتذكّر أنني وفي هذا العمر كنت مولعًا بظاهرة طلال السعيد، شاعر شعبي شاب وسيم يكتب شعرًا غزليًّا قريبًا من القلب ويقرؤه في التلفزيون بحماسة عاطفية ممتعة، وأنتبه بسبب طلال السعيد وإن لم يكن بقصد منه إلى روعة أشعار سليمان الهويدي رحمه الله، وحين أسمع أن نزار قباني امتداد لعمر بن أبي ربيعة، أدخل في العصر الأموي الأول بقوّة، وأكتب شعرًا فصيحًا و شعرًا عاميًّا، أقلّد نزار في الأول، وأقلّد ماجد الشاوي وفايق عبدالجليل في الثاني، تعرفت على فايق من خلال الأغنية، وقادني شعر طلال السعيد وسليمان الهويدي إلى ماجد الشاوي، وبعد قليل أتعرف على مسفر الدوسري الذي أكتشف كم هو بديع، فيكشف لي روعة وجمال شعر بدر بن عبدالمحسن..
ـ ويأخذني سليمان الفليّح ـ رحمه الله ـ إلى عوالم أخرى في كل اتجاه، وفي ليلة من الليالي يصحبني معه إلى سهرة مع الشاعر العربي الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، فيسمع مني قصائد فصحى وأخرى عاميّة، وينطق بحكم لا يدري أنه غيّر حياتي في ما بعد: "شجيّ أنت في العاميّة ومتمكن، أما الفصحى فتتسرب من بين يديك تمسكها وتتفلّت منك، استمر في العاميّة"!، ومن يومها توقفت عن الفصحى واتخذت العاميّة سبيلاً!،..
ـ ترى: لو لم أقرأ ما قرأت ولو لم أواجه من واجهت وألتقي بمن التقيت، هل كان المسار سيتغير؟!، في الغالب نعم؛ ذلك لأنني لم أفكر بالشعر قدر تفكيري بطه حسين، قرأته قبل نزار، في الثانية عشرة من العمر!، وكنت أحلم أن أكون مثله!، كذلك قرأت رواية لعلي الجارم وشغفت بها حبًّا، كانت تحكي قصة عشق ابن زيدون وولّادة بنت المستكفي، وفي هذه المرحلة من العمر أحببت مسرح صقر الرشود، وسينما يوسف شاهين!،..
ـ كان حلم حياتي أن أدخل الجامعة، وأن أحب طالبة جامعية وألعب معها "تنس طاولة"، تمامًا مثلما فعل هشام سليم وماجدة الرومي في "عودة الابن الضال"!، إذن كانت أمور كثيرة ستتغير غالبًا، خاصةً أنني كنت أحب كرة القدم وما زلت أظن أنني ألعبها بشكل مميّز، فيما بعد عرفت أن فكرتي عن كرة القدم هي طريقة لعب زين الدين زيدان نفسه!..
ـ فيما لو أنني عشت زمنًا آخر، أو في مكان بعيد، هل ستتغير هواياتي ورغباتي ومفاهيمي ومنطقي ودروبي، احتمال كبير نعم!، واحتمال أكيد أنني على الأقل سأكتب غير ما كتبت وأُنجز غير ما أنجزت، وأصادق وأحب غير من صادقت وأحببت، والخلاصة أنني سأكون إنسانًا آخر غيري!..
ـ هذا ما أسمّيه: الضفّة الأُخرى، أو الضفاف المُحتَمَلة!، وحين أفكّر في الأمر، أجدني هناك، حيث أنا أنا ولكنني آخَر!، وأهتدي إلى فكرة قبول الآخر من هذا الطريق!..
ـ لكل منا ضِفَاف أُخرى، لم يمرّ عليها، لم تطأها قدمه، لكنها كانت وظلت وبقيت محتملة، سكنها غيره من الناس، أو سوف يأتي من يسكنها، طالما هي محتملة فسوف تتحقق!،..
ـ لا يمرّ أحدنا بغير خيارات قليلة في كون مليء بالخيارات والاحتمالات الواسعة والمتعددة، وهو فيما لو تدبّر قليلاً لرأى أنه يحارب نفسه ويعتدي على ذاته ويرفض وجوده ويقيّد يديه ورِجْليْه، في كثير من الأحيان حين يحارب ويعتدي ويرفض وجود الآخر، أو يحاول فرض رأيه ورؤيته عليه!..
ـ أكرِم الضِّفَاف الأخرى، اجعلها تقول: ليته مرَّ بي، أو على الأقل لا تجعلها تتحسّر على خيبة حلمها فيك!،..
ـ كان يمكن أن تكون هناك، كان الاحتمال الأكبر أن تكون هناك: الآخَر أنتَ أيضًا، أنتَ بمعطيات مختلفة، هذا الذي تظنه غريبًا وبعيدًا، ليس سوى تنويع لك، توزيع موسيقي آخر، بآلات موسيقية أخرى، لأغنيتك أنت!.