الرواية والشعر فنّانِ جماهيريّان، بالمعنى الحرفي للكلمة فيما أظن، الفرق هو أن الرواية فن يحتاج إليه الجمهور، في حين أن الشعر فن يحتاج إلى الجمهور!،..
ـ للوهلة الأولى يبدو أن هذا الفرق يصبّ في مصلحة الرواية أكثر، يحررها ويمنحها سلطات أعلى، وهذه حقيقة، فالناس تريد من يحكي لها القصص، وهي إن لم تجد حكّاءً بارعًا، ستقبل بمن هو أقل مهارة، ففي نهاية المطاف لا بدّ من حكاية تُحْكى!،..
ـ أمّا الشعر فلا بدّ له من أن يكون مُشَوِّقًا ليجتمع حوله الناس، وهو فيما لو فقد هذه الصفة، فلا حاجة للناس به، ينصرفون لأقرب "راوية"، ومع وجود آلة موسيقيّة مُصاحبة، ربابة على سبيل المثال، يقبلون من الراوي حكاياته والسلام!..
ـ ما يبدو للوهلة الأولى في مصلحة الرواية، يظل حقيقيًّا من حيث ضمان وجودها، فالرواية لن تزول، حتى لو لم تكن فنًّا، والدليل أنها كانت موجودة قبل أن تصبح فنًّا!، غير أن الوَهَلات ما بعد الأولى، يمكنها الكشف عن مكاسب عظيمة للشعر، استنادًا على ذات الحقيقة المطروحة!،..
ـ الشعر قبل أن يكون فنًّا لم يكن موجودًا، لنقل إنّ وجوده كان متخفيًا في نشاطات كلامية أخرى، كان متخفيًّا فيها حتى عن نفسه!، وهو لم يكتشف نفسه إلا كَفَنّ، ولم يتعرّف على سطوته إلا من الناس!،..
ـ الرواية مرآة للناس، أما الشعر فمرآته الناس!،..
ـ من هنا، تحرّك الشعر باتجاه اكتشاف صِيَغ جديدة، وابتكر أساليب بهلوانيّة، ليحظى بالقبول، فقد عرف من الأساس أن شَغَفَ الناس متغيّر وغير مضمون!، في حين ركنت الرواية إلى ما لديها من ضمانات كونيّة، فتقدّمت مسيرتها ببطء، وعلى أقل من مَهْلها!..
ـ لذلك ربما اعتبرت كلمة مجنون إطراءً ومديحًا مُحبّبًا للشاعر، لا تُقال إلا شهادةً له على نبوغه، بينما راحت صفات مثل حكيم وعميق ورزين تأخذ طريقها إلى الروائي في سفر الإطراء!، وأظن أننا فيما لو خيّرنا شاعرًا بين كل الصفات السابقة، لما تمنى غير أن يوصف بالمجنون، فكل ما عداها بالنسبة إليه أقل قيمة منها!..
ـ يكفي الروائي أن يكون مُهِمًّا، بينما لا يكفي الشاعر إلا أن يكون شهيرًا ذائع الصيت!،..
ـ قد يأمل الروائي بمجد يتحقق له بعد موته، لكن الشاعر يريد مجده في حياته، وهو حتى حين يزعم بغير ذلك، وبأنه طامح إلى مجده بعد موته وأنه مكتفٍ بهذا الطموح الآخذ شكل اليقين، فإنه يحاول صياغة مزاعمه هذه بأسلوب شعري يعمل جاهدًا على نيل الإعجاب الآن، حالاً، حاضرًا بحاضر!..
ـ لهذا، فيما أظن، يبدو موت الشاعر، أكثر صخبًا ومثارًا للحزن والفزع، من موت الروائي، موت نزار قبّاني أكثر فجيعة من موت نجيب محفوظ؛ لأن جسد الشاعر جزء من قصيدته حتى وهي مُحَبَّرةٌ على ورق!، بينما رواية الشاعر معزولة عن جسده حتى لو قرأها في أمسية!..
ـ يخسر الشعر برحيل الشاعر الجماهيري الكثير من وَهَجِه، ومن سلطته، والحقيقة أنه برحيل الجواهري ونزار ودرويش، فقد الشعر العربي كثيرًا من هيلمانه!، على أيامهم كان لكلمة "أمسية شعرية" ما لها من فتنة وإشعاع، وبموتهم صارت فجوة واضحة بين الشعر والناس رغم أن أشعارهم مطبوعة ومحفوظة، في المقابل لم يؤثِّر موت نجيب محفوظ، وهو من هو في مجاله وفنه، على علاقة الرواية بالناس، وها هي الروايات بطلة المشهد الأدبي الحاضر، بينما ينتظر الشعر جنونًا عبقريًّا جديدًا، لشاعر بعينه، أو لشعراء بعينهم، وليس لنهج شعري، حتى يستعيد عافيته ومكانته!.
ـ مسألة أن يكون إنسان ما، شاعرًا أو روائيًّا، ليست مسألة اختيار بين شكلين أدبيين، هي أعمق من ذلك بكثير، وأصلها راسخ في طبيعة الإنسان نفسه، قبل أن يتحدّد في موهبته وقدراته!.