ليس هناك صوت أكثر إرعابًا من صفارات سيارات الدفاع المدني حينما تجوب الشوارع مسرعة؛ لإخماد حريق شب في بناية أو عمارة أو بيت صغير.. صوت يصيب بكل أنواع المخاوف والإزعاج.. صوت تستنكره الأسماع وتكرهه الأفئدة وتبغضه القلوب الرهيفة والقلوب القاسية كالحجارة.. وقبل ثلاثة أيام نظم مركز استشراف المستقبل في دبي جلسة حوارية عن الحرائق، خاصة عقب سلسلة من حوادث الحريق التي شهدتها المدينة الإماراتية، كان آخرها ذاك الذي جاء على برج الشعلة ذي الثلاثة وثمانين طابقًا؛ بسبب سيجارة رميت من أحد أدواره العالية، واستقرت في أصيص الزرع قبل أن تشتعل النيران وتبدأ بواجهة المبنى.. ومعظم النار من مستصغر الشرر..!!..
وفي المئة والخمسين عامًا الأخيرة، شهدت البشرية حرائق مهولة احتلت لها مكانًا لائقًا بين الأحداث الجسيمة التي لن تبرح الذاكرة آلاف السنين؛ ففي عام 1907 اندلع حريق هائل حول مدينة هاكوداتي اليابانية إلى رماد، وتشرد أكثر من ستين ألف إنسان، وخسرت المدينة قرابة السبعين في المئة من مبانيها بما فيها تلك المباني التاريخية، وقدرت الخسائر المادية بأكثر من ثمانية ملايين ين، وهذا رقم ضخم في تلك الأيام.. وفي عام 1943 كانت العاصمة البيروفية ليما على موعد مع حريق يأكل مكتبة بيبليوتيكا ناسيونال، ويلتهم مئة ألف كتاب ومجلد، وأربعين ألفًا من المخطوطات النادرة التي جعلت المهتمين بالتاريخ والتراث يتحسرون طويلاً على ذلك اليوم الأسود.. وفي عام 1958 شهدت مدينة شيكاغو حدثًا مأساويًّا حينما شب حريق في إحدى المدارس، وتوفي اثنان وتسعون تلميذًا وثلاث مدرسات.. وبعدها بثلاث سنوات أي عام 1961 يشهد الاتحاد السوفيتي حادثًا مشابهًا باحتراق مدرسة وسط منطقة شوفاش، ومات مئة وعشرة أشخاص بينهم أربعة وأربعون طالبًا دون الثامنة من أعمارهم..
وفي عام 1980 انتقلت النيران من المدارس إلى الكازينوهات والنار تقضي على كازينو MGM الشهير في لاس فيجاس، ويموت سبعة وثمانون شخصًا كانوا في عز انشغالهم بالغناء والرقص والمرح.. وبعد ذلك بعام واحد تدخل الهند على خط النار؛ فيحترق سيرك بانجالور ويودي بحياة ستة وستين إنسانًا، ما بين الحضور وأعضاء فرقة السيرك.. وفي عام 1994 فقدت الصين ثلاثمئة وخمسة وعشرين، بينهم مئتان وثمانية وثمانون طفلاً من أصل ألف طفل كانوا يتابعون عرضًا مسرحيًّا في مدينة كاراماي؛ بسبب حريق شب في المسرح.. ومن مسرح الأطفال إلى مسرح المساجين؛ ففي عام 2010 شهدت العاصمة التشيلية سانتياجو حريقًا في السجن ومات على أثره واحد وثمانون سجينًا كانوا يحلمون بالخلاص والخروج من وراء القضبان والعودة إلى الحرية، لكن ليست كل الأحلام تتحقق..!!..
أما أكبر حريق من ناحية عدد الضحايا؛ فكان في سانتياجو أيضًا، وذلك عام 1863 أثناء احتفال داخل كنيسة، وأزهقت أرواح ألفي إنسان.. وشهدت لندن هذا العام آخر حوادث الحرائق الكبيرة عندما شبت النيران في برج جرينفيل وانتقل أكثر من ثمانين شخصًا إلى مثواهم الأخير..
وفي كتاب مذكراته “كنت رئيسًا لمصر “.. تناول محمد نجيب أحد قادة ثورة 53 قصة الحريق المهول الذي شهدته القاهرة يوم السادس والعشرين من يناير عام 1952، والتهم أكثر من ثلاثمئة محل ومات ستة وأربعون مصريًّا وتسعة أجانب..
هذه شظايا من تاريخ اللهب والنار مع الإنسان.. تاريخ يشع باللظى ويؤكد ويبصم بالعشرة أن النار تحرق رجل واطيها وأرجل وأيدي وأجساد الهاربين منها.. أعاذنا الله وإياكم من نار الدنيا ونار الآخرة..