في واحد من أهم أعماله السينمائية، قدم نور الشريف ـ رحمه الله ـ فيلم "آخر الرجال المحترمين"، الذي كتبه وحيد حامد عام 1984.. كان نور الشريف آخر الممثلين المحترمين الذين يقدمون أداءً يحترم العقل والفكر والمنطق.. صارع نور الشريف المرض ورحل بهدوء.. لم يرحل منتحرًا بالطبع.. الانتحار مرض يصعب تفسيره وعلاجه تمامًا، كما هو مرض السرطان الذي قضى على نور الشريف.. تذكرت الفيلم فقط حينما كتبت عنوان هذا المقال "آخر الرجال المنتحرين".. ففي الأسبوع الماضي نقلت صحيفة الديلي ميرور البريطانية خبرًا صادمًا عن انتحار فتاة صغيرة لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، عقب مشاجرة عائلية عابرة مع والدتها.. كل شيء في الخبر مثير للإزعاج.. يكفي أنه أغراني ودفعني لأكتب عن الانتحار.. هذا أهم ما في الأمر من إزعاج.. بالتأكيد رحيل فتاة مراهقة بتلك الصورة مزعج للغاية، لكن الحي أبقى من الميت..!!..
في قائمة المنتحرين، هناك نسوة متفرقات ومشتتات الأماكن والأسباب، لكن الرجال الأشداء يسيطرون على المشهد.. أعتقد أن المنتحر مريض، لكن المشكلة دائمًا أن المرض ليس عيبًا ولا عارًا.. إنه ابتلاء "وربنا لا يبلانا ولا يبلاكم"..
هناك عظماء وملهمون وناجحون وموهوبون أنهوا حياتهم بأيديهم، وكتبوا أنفسهم مع المنتحرين.. القائمة مكتظة.. يتصدرها الروائي والصحفي الأمريكي العملاق أرنست همنغواي الحائز جائزة نوبل للآداب عن روايته العجوز والبحر.. كان متشائمًا طوال حياته ومكتئبًا ويعاني من اضطرابات في وظائف المخ، وفي صباح الثاني من يوليو عام 1961، أخذ البندقية ووضع فوهتها داخل فمه وأطلق الزناد.. انتهى كل شيء بضغطة زناد.. فيما بعد فسر الأطباء ما حدث بأنه مرض وراثي، حيث سبق لوالده أن مات منتحرًا بسبب زيادة تركيز الحديد في الدم الذي يقود إلى الاكتئاب والجنون.. ثم هناك الفنان والرسام العبقري الهولندي فان جوخ، وانتحر أيضًا رميًا بالرصاص، لكن الفرق أنه وجه البندقية إلى صدره يوم السابع والعشرين من يوليو عام 1890، عقب أن قدم للبشرية أكثر من ألف لوحة لا يستطيع رسمها إلا المجانين..
أما الجنوب إفريقي كيفن كارتر فانتحاره يدمي القلب.. هذا الرجل مصور صحفي مبدع ورقيق، وهذه المهنة وذاك القلب العطوف دفعاه للانتحار.. في قرية أيود الواقعة جنوب السودان، اتجه كارتر لتغطية وقائع المجاعة هناك عام 1993.. طفلة يغلبها الوهن والهزال تمشي في طريقها إلى مركز لتوزيع المساعدات الغذائية.. يحط خلفها نسر ضخم يترقب حراكها حتى ينقض عليها.. كأن النسر ينتظر موتها.. يلتقط كارتر الصورة لحظة انحناءة الطفلة، وتأهب النسر، ويبيعها على صحيفة نيويورك تايمز، وتنتشر وتطوف العالم وتتناقلها وكالات الأنباء، ثم تفوز بجائزة بوليتزر، وهي واحدة من أهم الجوائز الممنوحة لأفضل الصور حول العالم.. تعيش أجواء التقاط الصورة في خيال كارتر ثلاثة أشهر، ويستسلم بعدها وينتحر متأثرًا بصورة التقطها، ولم يكن يعلم أنها ستقتله.. قبل أن ينتحر كتب رسالة جاء فيها: "أنا آسف جدًّا جدًّا.. ألم الحياة يفوق متعتها بكثير"!..
هناك رجل آخر انتحر مجبرًا لا بطل.. ثعلب الصحراء أرفين رومل، الرجل الذي كان صاحب اليد الطويلة في انتصارات الألمان طوال العهد النازي الدامي، وحينما اكتشف هتلر أن رومل يخطط لاغتياله، خيره بين تناول السم والموت منتحرًا، والإعلان للناس بأنه مات متأثرًا بجلطة في القلب، أو تقديمه لمحاكمة عسكرية بتهمة الخيانة العظمى؛ فاختار الانتحار وريح دماغه.. وقبل تناول السم طلب لقاء ابنه وقال له: "لن تراني بعد اليوم يا ولدي، لقد انتهى كل شيء.. كل الانتصارات العظيمة التي حققتها لم تعد تعني أي شيء.. المهم أنني نجحت في توفير الهدوء لك داخل البيت؛ فلم أسمح لأمك أن تشتري البيانو الذي تتمناه.. كانت رديئة الأداء".
من الواضح أن رومل هذا كان رجلاً محترمًا وانتحر.. لم يكن الانتحار قراره.. كما أن نور الشريف لم يكن يريد أو يسعى ليكون آخر الفنانين المحترمين، لكنها الأقدار وتصاريف الزمن، والبيانو الذي يشتريه من لا يعرف العزف.. فالدنيا يا صاحبي بيع وشراء.. هي كذا بكل بساطة.. وإلا لما اشترت الجريدة الأمريكية صورة الطفلة السودانية ثم انتحر المصور..!!