في أحد مشاهد "طاش" الضاحكة، أراد ناصر القصبي افتتاح محل لبيع الورود، لكن جاره محمد الطويان الرجل الجاف القادم من الصحراء استحقر الفكرة واعتبرها قلة عقل ومضيعة للمال، ونصح القصبي بالاتجاه إلى تجارة المواشي والأغنام.. ويمر الزمن وتصبح الفكرة الساخرة أكثر واقعية..
جاهدت هولندا كثيراً وطويلاً في محاولة جعل الورد وتجارته واستثماره طريقاً دولياً يمكن سلوكه والسير فيه حتى النهاية.. في عام 1896 افتتحت أول مدرسة من نوعها على مستوى العالم متخصصة بالتدريب والتعليم على الزراعة والعناية بالزهور في منطقة نالدفيك، وبعد عام افتتحت مدرسة أخرى لنفس الغرض والتوجه والأهداف في منطقة السمير، وفي العام 1926 اعتمدت هولندا التخصص بشكل رسمي وبدأت بمنح شهادات رسمية لأولئك المتخرجين من هذه المدارس ليتمكنوا من العمل واحتراف مهنة العناية وزراعة الزهور.. وفي عام 1968 صار بإمكان الطلاب الحصول على دبلوم في التعامل مع الزهور.. ومنذ العام 1850 كانت هولندا قد صدرت للعالم فكرة بيع الزهور بباقات وأكياس شفافة.. غزت هذه التجارة العالم كله وازدهرت وتوسعت فلا تخلو مدينة كبيرة من محل يبيع الزهور بأنواعها..
وفي العشرين عاماً الأخيرة بدأت رؤية الطويان الثاقبة تجد لها مكاناً وموقعاً.. على الأقل لم تعد مجرد فكرة ضاحكة وساخرة وتجارة الزهور تتوارى وتتراجع بصورة لافتة.. ففي الولايات المتحدة الأمريكية تشير الأرقام إلى أن عدد العاملين في حقل ومجال الزهور تراجع بين عامي 1992 و2007 إلى أكثر من الربع، وأن البقية يتهددهم الخطر بفقدان وظائفهم بسبب تراجع الناس مع التعاطي والتعامل مع الزهور لإيمانهم أنها مصاريف وتكاليف إضافية ليس بالضرورة خسارتها ثم إن هناك سبباً قوياً آخر وهو شراء الزهور عبر الإنترنت وبأسعار أقل من المحلات والسوبر ماركت..
تحتضن دبي أكبر حديقة زهور في العالم لكن لا يزورها إلا بعض اليابانيين والغربيين.. حديقة تحوي قرابة 45 مليون وردة، وتعد واحدة من معجزات الزراعة على هذه الأرض.. زوروها ولو مرة.. ليست بعيدة عن دبي مول.. اعتبروا زيارتها غلطة..
من كلمات محمود بيرم التونسي قدمت السيدة الراحلة أم كلثوم ـ رحمها الله ـ واحدة من أسوأ أعمالها بأغنية "الورد جميل" وأظن لو عاد الزمن بها وفكرت ثلاث دقائق فقط بالقصيدة وفكرتها ومطلعها لرفضت أن تشوه تاريخها بأغنية بائسة وسخيفة مثل ورد بيرم.. لكنها عثرة وسقطة وانتكاسة على أية حال..
العراقي حسين نعمة، لم يعرفه أحد إلا عبر أغنية "عمي يا بياع الورد".. غناها كثيرون.. أغنية من الموروث الشعبي العراقي.. أغنية عتيقة جعلت الورد والزهور قريبة من عوالم الحب والرابط الأساسي في العلاقة بين العشاق على الأقل في العقول الباطنة التي استمعت واستمتعت بصوت نعمة..
لو كان عندك فكرة مشروع تجاري وناوي تدخل قائمة الاستثمار بكل قوة وحماس فأول عمل تفكر به استبعاد محلات الورود من حساباتك، تحتاج تركز ولا تستشير أحداً لأن الإجابات ستكون متشابهة وجميع أصدقائك ومعارفك ومحبيك سيقولون لك نفس الكلام الذي سمعه القصبي من الطويان..
وسيتهمونك بقلة العقل والتدبير، وممكن يقولون لك الأمريكان أنفسهم "اللي يحطون" على قبور موتاهم ومفقوديهم أفخم وأجمل أنواع الورود ما عادوا يشترونها كما كانوا.. أم كلثوم أخطأت وغنت الورد جميل.. نعمة ما عنده أي تاريخ إلا هذه الأغنية المجهولة الكلمات والألحان.. هولندا تقاتل لوحدها في عالم يتغير كل لحظة.. حديقة دبي ليست من أهدافنا السياحية.. والورد متعة للعين وأحياناً للشم فقط.. وما يملأ عين ابن آدم إلا التراب.