"قف دون رأيك في الحياة مجاهداً".. هذا الشطر الأول من بيت شعر شهير كتبه أمير الشعراء المصري الكردي أحمد شوقي.. ثم يكمل البيت بقوله "إن الحياة عقيدة وجهاد".. وهذا الشطر اتخذته جريدة الحياة اللندنية شعاراً لها مستغلة تطابق كلمة الحياة التي أوردها الشاعر مع اسمها إضافة إلى المعنى القوي والمباشر والعميق ـ الدال على أهمية التمسك بالرأي والمحاربة من أجله في هذا العالم.. لا يحتاج الرأي إلى جهاد وقتال وحرب بسوس.. ولا يحتاج إلى الذود والوقوف دفاعاً عنه وكأنه الذي يأتي من بعده الطوفان.. رأيك الذي تقوله اليوم قد يتغير غداً أو بعد غد.. من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال تتحول الأفكار وتتبدل.. تتحول معها وجهات النظر والمواقف.
بيت أحمد شوقي قوي وشهير وفيه موسيقى معنوية تدغدغ المشاعر والأذهان والعواطف، لكنه يقف على الشواطئ المقابلة للوعي والفكر والنضج الإنساني.. هذا أمير شعراء العرب.. وما أكثر ما تزدحم دواوين العرب بأبيات وقصائد توقد الحماسة من رمادها وتوقظ البسالة من مرقدها ومنامها.. "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".. لا أعرف من صاحب هذه المقولة العقلانية.. يقولون إنه الشافعي.. تتواتر المعلومات.. لا يهم فعلاً من قالها.. الأهم من يحترمها ويؤمن بها ويطبقها ويجعلها إحدى قواعد ودساتير حياته، ثم يضع أشعار شوقي على الرفوف ويتركها تنام فوقها نومة أهل الكهف.. يقول بيل كلينتون "إن الخطأ الكبير فعلاً هو أن أعرف أنني قلت الخطأ ولم أتراجع عنه".
التناقض في الآراء بين زمن وآخر وبين مرحلة وأختها يكون أحياناً فضيلة وتراجعاً عن الباطل.. التناقض ليس دائماً عيباً وعاراً وخطيئة.. لست مستعداً لصعود منابر الناصحين.. هذه ليست مهمتنا وأدوارنا.. نقول ما نريد قوله على عجل.. ونمضي في حال سبيلنا.. لا شيء يعلمك مثل الزمن أن ما فعلته أمس زلل لم تحسب حسابه.. والزمن نفسه الذي سيقول لك أيضاً إن ما تقوله اليوم قد يسير على نفس طريق الأمس.. وحينما سئل الروائي المغربي الراحل محمد شكري عن السر وراء الصراحة الصادمة والمقززة على صفحات كتابه "الخبز الحافي"، الذي يتصدر منذ سنوات قائمة الأكثر مبيعاً في العالم العربي، وظل إلى وقت قريب ممنوعاً من التوزيع حتى في بلاده قال: "قررت أن أقول شيئاً عن نفسي قد لا أستطيع قوله فيما بعد".. قوله هذا مجرد رأي ربما هو الذي جعل منه الروائيون العرب منهجاً يوصلهم إلى الأرقام الفلكية باجتياز الخطوط الحمراء والزرقاء والبنفسجية.
الرواية العربية اعتادت على البحث عن القراء وفق قاعدة محمد شكري، وليس وفق أي مقومات فنية أو أدبية أخرى.. رأي محمد شكري ذاك هو الذي يشكل البنية الأساسية للإنتاج الروائي على الأغلب.. التعميم أحياناً كثيرة يصبح عادلاً أو لنكون أكثر واقعية يصبح مريحاً لإطلاق أحكام مسبقة..
يقول الفيلسوف الفرنسي جوزيف جوبير: "الذين لا يتراجعون عن رأيهم يحبون أنفسهم أكثر مما يحبون الحقيقة".. كأنه يقصد أحمد شوقي.. كأنه يريد القول غيروا آراءكم متى ما سنحت لكم الفرصة.. إلا إذا كنتم تكرهون الحقيقة وتنتصرون لأنفسكم فقط كما كان يفعل شاعركم أحمد شوقي.. وكل مناصريه ومؤيديه وعشاقه.