في السنة الأولى من الجامعة جمعتنا شقة عزاب بحي السلي شرق الرياض.. الشقة في أقصى الشرق وجامعة الملك سعود في أقصى الشمال.. اختيارنا ذلك المكان القصي سكنًا يعود على مواصفات وضعناها لمثوى سنقضي بين جدرانه أغلب الوقت.. قادمون من الشمال.. اشترطنا شقة تحوي "حوش" يطل على الفضاء الفسيح.. وتنعم أعيننا برؤية السماء.. وهذا ما تحقق.. في شقة مثل تلك سقى الله أيامها ولياليها الخوالي، كنا نذهب إلى كلياتنا وقاعات الجامعة كالذين يقادون إلى الموت، ثم نعود إلى الشقة نتبادل الآراء والأحاديث والسواليف.. ننعم بطقوسنا ومتعتنا البريئة على "مراكي" متقابلين.. شقة عزاب تستقبل أغلب المعارف والأصدقاء القادمين من رفحاء.. هذا قادم لعلاج وآخر لتجارة قد تبور، وثالث للتزود بمؤونة للشتاء.. ذاك سيشتري سيارة وهذا يجهز لزواجه.. وتمضي الأيام في زحمة وجوه عابرة.. في مثل تلك الأجواء قد نتكلم عن الأسباب الخفية في نهضة دبي المتسارعة، ونتناول الطريقة المثلى لجمع الحطب من نفود لينة، ونتسامر على ذكريات أسفار الأيام المستعجلة إلى الدمام أو جدة أو عمان..
عن كل شيء يحل ويحلو الكلام.. طرحت قضية الدجاج.. نعم الدجاج ما غيره.. بدأ السؤال عن عدد الدجاج التي يستهلكها مطعم الرابية في صيخ الشاورما.. تطورت السالفة بسرعة وتساءلنا كم تستهلك مدينة ضخمة مترامية الأطراف مثل الرياض لدى قاطنيها قوة شرائية من الدجاج يوميًّا.. كم دجاجة يأكل أهل الرياض؟ الإجابة الأولى كانت عشرة آلاف.. تجادلنا حتى وصل الرقم إلى مليون دجاجة.. أرقام تصدرها خيالاتنا وأوهامنا وتوقعاتنا دون أي اتكاء على معلومة أو دراسة ولو من بعيد.. كلام يقال ويذهب مع الريح في ذلك الحوش المفتوح.. عدت لتلك الشقة وحكاياتها عندما فكرت بالكتابة عن الدجاج.. وأظن أغلب البشر ذوي الظروف المتشابهة لا يمضي عليه يومان مترادفان دون أن تكون الدجاجة وملحقاتها تسبح في أحشائه وأمعائه.
في كل مكان حول العالم يتصدر الدجاج قائمة الأطعمة.. تصنع وتطهى وتطبخ بمئات الطرق.. في العشر السنوات الأخيرة دخلت الدجاجة "تتمخطر" بين أطباق السلطات.. هذه هي المرأة الحديدية.. وليست تاتشر أو ميركل.. والغريب أن كل المعلومات عن الدجاج صادمة.. مثلًا الدجاجة لا تتوقف عن الأكل إلا في الظلام.. طالما هي في الشمس أو النور فتلقف كل شيء يمكنها التهامه.. لديها حويصلة تطحن وتهضم الجبال.. وسبحان الله أحسن الخالقين.. الدجاجة البياضة لا تحتاج إلى السيد الديك.. جميع الدجاج تبيض بلا ديك.. تأتي الحاجة للديك حينما يراد منها الإنجاب عن طريق البيض.. تحتاج الدجاجة إلى النمو قرابة الخمسة وأربعين يومًا حتى تصبح جاهزة للذبح والأكل.. تستهلك كميات مياه كبيرة جدًا.. اقتصاد الدجاج يبدو مهولًا وأظنها أكبر وأشمل وأكثر وأوسع تجارة حول العالم.. تجارة الدجاج تفوق تجارة الأسلحة والطائرات وأجهزة الآيفون.. في الصين وحدها قرابة الخمسة مليارات دجاجة.. عام 1861 أصبح الأسترالي طوماس سوتكليف مورت أول من بدأ بتجميد الدجاج بغرض التصدير والتجارة عبر ميناء دارلينج في سيدني.. ثم مول تجارب المهندس الفرنسي يوجين دومينيك نيكول، وأول شحنة تصدير كانت باتجاه لندن عام 1866.. وفي عام 1889 دخل الروس على الخط وصدروا إلى لندن أيضًا قرابة 200 ألف أوزة ودجاجة.. ثم بدأت العجلة تسير وتتسارع إلى ما وصل عليه حال سوق الدجاج واستثمارها في الوقت الحاضر..
أكثر البلدان إنتاجًا أمريكا والبرازيل والصين، وأكثر دولة تستهلك الدجاج هونج كونج ثم أمريكا.. وأكثر الأمراض التي تتعرض لها الدجاج هي الأزمات القلبية ومرض الميولازما الذي يسبب متاعب تنفسية وأيضًا الكوليرا الخاصة بالطيور والتسمم.. وأكثر ما يتسبب في نفوق الدجاج هي مطاعم البرجر والبوستد والمشاوي.. لا أحد يذهب إلى جدة دون أن يجلس على مقاعد البيك.. في رحلات كثيرة يتشمم العائدون من جدة إلى الرياض والقصيم وحائل رائحة دجاج البيك تفوح من أدراج الحقائب فوق رؤوسهم.. وأحداث مسلسل "خرج ولم يعد" الكويتي دارت حول شركة الدواجن البياضة التي ورثتها حياة الفهد وسلمت زمام الأمور فيها لزوجها غانم الصالح الذي تزوج فيما بعد سعاد عبدالله.. وأطرف وظيفة فيها كانت من نصيب إبراهيم الصلال "حامل أختام الشركة".. كان البيض يأتي مختومًا.. لا أعرف لماذا اختفت الأختام في السنوات الأخيرة..؟.
وفنان الكوميديا المصري محمد سعد غنى للدجاج: "هش هش يا ديك.. الفرخة دي مش ليك" في فيلم اللمبي.. كانت أغنية راقصة في حفلة راقصة في زواج شعبي أقيم وسط الشارع.. والكلام والغناء عن الدجاج يحتاج إلى حوش داخل شقة في حي السلي أو زواج على أطراف حارة مصرية شعبية.. في تلك الأماكن ممكن أن تسأل نفسك.. كم دجاجة أكلت في حياتك.. فكر.. وربما تجد الإجابة؟