|


صالح الخليف
كلها مهنة متاعب
2017-08-02

ما في أحد مرتاح، كل واحد معه همه.. هذه أغنية بصوت الكويتي عبدالله الرويشد لم تأخذ نصيبها من الشهرة والاهتمام والاحترام.. لكن معناها عميق وراسخ ومتجذر في أرواح البشر وألسنتهم.. قلة قليلة يمكن أن تعترف بالراحة في وظيفتها وعملها ومهنتها ودورها في الحياة..

 

أحد أصدقائي كان لاعبًا محترفًا في نادٍ كبير ومشهور، وكنت ألتقيه في فترات متباعدة.. علاقتي معه تليفونية بامتياز.. قلت له مرة إنكم أيها اللاعبون الأكثر راحة ومتعة وانبساطًا.. وظيفتكم لعب ووناسة وسفر وشهرة ورواتب عالية يحسدكم عليها حاسد إذا حسد..!! ثم فاجأني بسيل من منغصات لا تنتهي حول مهنته، فقال: "لا نهنأ طوال العام إلا بشهر إجازة، ربما لا يكتمل من أجل الاستعداد للموسم الجديد.. ثم إن كرة القدم وممارستها لذيذة ومحببة إذا كانت مجرد هواية للترويح عن النفس وأخذ وقت مستقطع أمام متاعب الدنيا المتشابكة، وأيضًا هناك هاجس إصابات تخيم على تفكيرنا وأذهاننا في كل مباراة، وهناك الالتزام بالتدريبات في رحلة مواعيد يومية صارمة وبغيضة، وهناك جمهور يضعك تحت الضغط وتحت المجهر، وتحت مطالباته المستمرة بأداء مثالي ونموذجي وتحقيق البطولات، دون أي مراعاة لظروفك النفسية أو العائلية أو الاجتماعية، وأيضًا فإن أعمارنا الوظيفية كلاعبين قصيرة جدًّا؛ فيجب استغلال هذه السنوات وجني أكبر قدر من المال، عسانا أن نتحول بعد الاعتزال إلى رجال أعمال ناجحين، نوفر لأهلنا وأسرنا ومن نعولهم لقمة عيش كريمة.. ولا تنسى أننا محرومون من التعايش مع الأسواق والمطارات والأماكن العامة بصورة طبيعية.. الشهرة متعبة وتقيد حريتنا وراحتنا؛ فنحن مطاردون من أعين الناس باستمرار.. هذا شعور مؤذٍ للغاية".

 

هذا كلام صديقي اللاعب، ولا أدري هل تتفقون معه أم تظنونه من المبالغين.. ونحن معشر الصحفيين نشكو مثله وأكثر، والحق ما شهد به الأعداء.. قبل عشر سنوات تقريبًا كتبت هنا في "الرياضية" مقالًا عن بحث ودراسة أجراها طبيب أردني، حذر فيها الصحفيين من الضغوطات الهائلة التي تواجههم على مدار العام؛ فمهنتهم تتطلب التركيز والمتابعة والحذر والخوف والقوة والتحدي والانتباه؛ الأمر الذي يجعلهم معرضين بشكل أكثر من غيرهم للإصابة بالجلطات الدماغية..!! وقالت نفس هذه الدراسة وذاك الطبيب الأردني، إن الصحفيين يستحقون أربعة أشهر كحد أدنى إجازة سنوية لتخفيف التوتر المصاحب لهم في عملهم الذي يسمونه مهنة المتاعب.. ولا أعرف من أطلق على الصحافة مهنة المتاعب؟ هل هو ذاك الجيل من الرواد والأوائل، أم القراء.. هل هم الصحفيون العرب أم أشباههم الفرنسيون والطليان والألمان.. لا يهمني.. المهم أنها تحمل بصفة رسمية ومشروعة هذا اللقب الشيق، الذي ريحنا ووفر علينا الجهد والكلام وإقناع من لا يقتنع بأن شغلتنا هذه متعبة ومزعجة، وجسر سريع إلى عالم الجلطات الفسيح على ذمة الطبيب الأردني..!!.

 

ما زلت أذكر كلام مدرس مادة التعبير في المتوسطة.. قدم لنا نصيحة صادمة.. كنت أظنه يعيش في رغد من الراحة.. كان يدخل الفصل ويلقي السلام على عجل، ثم يطلب منا الكتابة بصفحة أو صفحتين عن الشتاء أو المطر أو عطلة الربيع أو حقوق الجيران.. ويسحب الكرسي ويجلس مطلقًا لخياله العنان ليسبح مع همومه وآماله.. كنت أظن وظيفته تستحق جائزة الأوسكار عن الدور المريح منذ عرفت البشرية الأعمال الشاقة.. جلس مرة يتكلم بهدوء وصفاء وحرية.. قدم نصيحته وقال: (إذا خلصتم الثانوية ادخلوا كلية التربية البدنية، تتخرجون مدرسين رياضة.. ارموا الكورة على الطلاب واستريحوا.. هذه أحسن وظيفة.. لا تغلطون غلطتنا).

 

كأن الذي قالها يتكبد مشقة وعناء وظيفة لا تجعله يغفل طرفة عين.. كأنه ليس الرجل الذي يطلب الكتابة عن الشتاء ثم يجلس فوق الكرسي جلسة القرفصاء.. عجيب هذا العالم..!!..

 

عملاق الصناعة الأمريكية هنري فورد، الذي اشتغل بمهنة السيارات واختراعها وتطويرها طوال ستين عامًا متواصلة.. أعوامًا مديدة من الجهد والتعب والعناء والتفكير.. بدأ العمل من سن العشرين وتوقف حينما بلغ الثانية والثمانين.. كان يعمل بحماس أربع عشرة ساعة يوميًّا، وعندما سألوه: لماذا لا تتوقف أو تهدأ وقد جمعت هذه الثروة الطائلة؟ فقال: عجلتي دارت بأقصى سرعتها وقوتها منذ سن العشرين، وعجزت عن إيقافها حتى الآن..!! أظنه انشغل بالعمل عن القلق؛ لأن العمل خير علاج كما كان يقول روبسون.

 

مدرس التعبير ولاعب الكرة ونحن الصحفيين وصانع السيارات.. (كلهم تعبانين) وكلها متعبة.. الفرق بالعجلة التي دارت ولن تتوقف.. الفرق بالراحة.. وما أحد مرتاح..!!