منذ أربعين عامًا أو تزيد وأبو ربيع شخصية شهيرة ومهمة ومحورية على امتداد خط الشمال من حفر الباطن وحتى مشارف القريات.. فأغلب البيوت دخلها أبو ربيع منتصب القامة يمشي.. يستقبله الناس عند الأبواب كما يُستَقبل الأبطال الفاتحون المنتصرون.. شاهدته كثيرًا.. قادمًا يؤدي مهمته عند صديق أو قريب أو أحد الجيران السبعة الذين أوصى بهم رسولنا الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ.. وفي كل مرة أرى "أبو ربيع" ووجهه وضاح وثغره باسم.. حاز ثقة الشماليين.. فهجروا المستشفيات وقاطعوا المستوصفات وتجاهلوا مشارط الأطباء وغرف العمليات؛ من أجل "كفي أبو ربيع اللي تتلف بالحرير"..
كان أبو ربيع هذا ولا يزال "المطهر" المعتمد والمحبب والظاهر دائمًا في الصورة.. أردني عاش حياته كلها "يطهر" مواليد أهل الشمال حتى أصبح معلمًا إنسانيًّا انتصر وبجدارة على الطب وتطوره وتقدمه ونجاحاته.. لا يملك أبو ربيع سوى نظارته السميكة وشاربه الكثيف المتدلي من الجانبين، وشنطته الدبلوماسية التي تحتوي على أدوات العملية السريعة.. قفاز ومطهر ومشرط صغير وشاش طبي ولصقة جروح عادية.. ونية طيبة مباركة.. كل هذا مهم.. الأهم بالنسبة لي هي الكرافتة الملونة التي يرتديها مع بدلته البنية الداكنة.. يولي هندامه اهتمامًا كبيرًا أو هكذا كان يبدو لي.. لم أشاهد أحدًا يرتدي الكرافتة في رفحاء سوى "أبو ربيع".. ربما لو لم أعرفه منذ فجر الصبا وشاهدته بكرافتته خارج الحدود لظننته مصرفيًّا عريقًا أو مديرًا بشركة طيران ناشئة.. أشبع أبو ربيع عينيّ بالكرافتات.. ولو لم أعرفه وأشاهده لربما ساد على خيالي أوهام ربط الكرافتة بالثراء والأهمية والمكانة المرموقة والمنصب الحساس.. هذا ما تعكسه السينما.. لا يرتدي الكرافتات في الأفلام سوى علية القوم.. تفكيرنا يظل أسيرًا بأغلال كُتاب السيناريو والمخرجين التلفزيونيين أزمنة طويلة..
أغلب الأشياء الجميلة تولد في باريس.. لويس فيتون ونهر السين وبرج إيفل والكرافتات.. الكرافتة ظهرت للوجود في باريس عام 1618 أي أنها تزين أعناق الرجال منذ أربعمئة عام.. تخيل!!.
شاهد الفرنسيون الجنود الكروات المرتزقة ورقابهم ملفوفة بقطعة قماش علقتها زوجاتهم تعبيرًا عن الحب والمودة والوفاء خلال حرب الثلاثين عامًا، التي نشبت بين دول أوروبية تلك الأيام الغابرة.. نالت إعجاب الفرنسيين.. ومن يومهم كان الفرنسيون أصحاب ذوق ونظرة راقية.. وأطلقوا اسم "كرافتات" نسبة إلى الكروات.. وكرواتيا جعلت للكرافتات يومًا عالميًّا يصادف الثامن عشر من أكتوبر كل عام، وتحتفل مدن كثيرة بهذا الحدث، ومنها دبلن وكومو وطوكيو وسيدني..
ومصمم الأزياء الهندي ساتيا بول صنع أغلى كرافتة حتى الآن، وقدمها عام 2004 في عرض للموضة، وبلغت قيمتها 250 ألف دولار.. أما الأمريكان فإنهم ينفقون سنويًّا قرابة المليار دولار من أجل شراء الكرافتات.. ويستصعب الكثيرون طريقة لبس الكرافتة ولديهم قناعة أن لبسها يحتاج إلى دورة تعليمية مكثفة لمدة ثلاثة أسابيع.. وحتى تطمئن وتتجاهل هذه المشكلة إذا كان عندك نية تدخل عالم الكرافتات، كلما وجدت نفسك في صالة مغادرة المطار الدولية؛ فتذكر أن خمسة عشر ألف أمريكي يلجؤون يوميًّا إلى الإنترنت بحثًا عن وسيلة تهديهم وتعلمهم وتدلهم على كيفية ربط الكرافتة.
وإيران الدولة الوحيدة التي تمنع مواطنيها من ارتداء الكرافتة، والسبب طبعًا ساذج وسخيف؛ كون الكرافتة صناعة أوروبية.. بينما تسمح باستخدام الأجهزة والأدوات والسيارات الأوروبية..!!.
ولسبب غير معروف تحظر شركات ناجحة وعملاقة وملهمة مثل إيكيا وجوجل وأبل موظفيها من ارتداء الكرافتة.. لا أعرف ما السبب.. لو عرفت ربما لما كانت كرافتة أبو ربيع مهمة وذات قيمة..!!.