في محاضرته الأولى طلب منا تلخيص كتاب مكون من أربعمئة وخمسين صفحة على عشر صفحات فقط.. حينها عرفت وتيقنت أنه أستاذ لا يستحق أن يكون معلمًا حتى إن أتى بشهادته من أعتى جامعات أمريكا.. كان ذاك أحد دكاترة الإعلام في جامعة الملك سعود.. سريعًا اكتشفنا إصابته بالفكر الاستعلائي.. لا يمكن الدخول معه في جدال لأنه قادم من السيدة أمريكا حاملًا الدكتوراه ونحن تلاميذ جمعتنا الجامعة من مشارق المملكة ومغاربها.. لم يكن أغلب الزملاء والرفاق لديهم القدرة على تحمل قراءة كتاب ضخم ومن ثم تلخيصه.. هذا عمل شاق ومهين.. الذي لا يحب الكتب يضنيه ويتعبه قراءتها فكيف بتلخيصها.. الذي يحب الكتب يعرف أن تلخيص الكتاب جريمة ثقافية كما هي سرقة الأفكار والخواطر والقصائد.. أغلب الكتب غير قابلة للتلخيص لأنها تعتمد أساسًا على لغة المؤلف.. واللغة المبهرة الممتعة المذهلة لا يمكن وصفها فكيف يمكن تلخيصها.. إنها مثل آيس كريم جوديفا الغني بالشوكولاته الساحرة.. لا يمكنك تذوقها من كلام الناس.. في هذه الحالة فعلًا كلام الناس لا يقدم ولا يؤخر!!
لكنني اليوم سأعترف بالجريمة قبل ارتكابها.. ستتلطخ يداي بالخطيئة.. هذا قرار اتخذته وأنا بكامل قواي العقلية.. مخالفة اقترفتها دون إحساس بالجناية والجنحة والجريرة.. سأحاول أن ألخص لك ما استطعت إليه سبيلًا من أمتع الكتب التي عرفتها وصادقتها وجمعني معها حب من طرف واحد..!!
بعد أن أصبح أرسكين كالدويل أشهر كاتب أمريكي روى قصة حياته المثيرة في كتابه "اسمها تجربة"..
قبل ستة وستين عامًا وبالتحديد عام 1951 صدر الكتاب ولم يترجم للعربية إلا في مطلع الشهر العاشر من العام 2006.. أي أن القراء العرب انتظروا قرابة الخمسين عامًا حتى انضموا لأولئك الذين تمكنوا من قراءة ومعرفة حياة كالدويل الصعبة والمتعسرة والمثيرة للجدل.. عاش طفولة قاسية ومعذبة تحت رحمة أب انشغل عنه تمامًا؛ الأمر الذي اضطره لدخول غابات البحث عن لقمة العيش في سن مبكرة، فعمل وسط المزارع يجمع القطن وعمل نادلًا وجرسونًا في مطعم.. وعند بلوغه السابعة عشرة وجد نفسه حارسًا لملهى ليلي قبل أن يغادر المهنة البائسة إلى مساعد طباخ ثم سائق تاكسي، وكلها كان الفشل ينتظره على أحر من الجمر.. ظلت نزعة الكتابة تدغدغ حواسه فالتحق بصحيفة "جورنال أتلانتا" عقب أن لفظته جامعة فرجينيا لكسله وعدم انتظامه.. وبعد عام واحد قرر خوض المغامرة الكبيرة في مشوار حياته؛ فترك الصحيفة وتفرغ لكتابة القصص القصيرة، وكان يصحو صباحًا ويكتب حتى منتصف الليل، وعرف معنى ضنك العيش بكل تفاصيله، فلا مال ولا دخل وانعزل تمامًا عن العالم وظل يرسل كتاباته للمجلات لكنها تجاهلته، حتى اتفقت معه إحدى المجلات على أن يقدم لها عرضًا لكتب جديدة، مقابل أن يحصل كالدويل على هذه الكتب، التي أصبح يبيعها لتوفير الخبز وطوابع البريد واحتياجاته الأساسية.. وفي خضم هذه الأجواء المحبطة تنشر له إحدى المجلات قصة قصيرة وتمنحه عشرة دولارات.. وتبدأ العجلة بالدوران السريع.. ألف دولار عن القصة.. عشرة آلاف عن القصة.. روايات ناجحة تتحول إلى مسرحيات.. ثم يروي كل هذا الكفاح الطويل في كتابه "اسمها تجربة"، الذي يصعب ويستحيل اختصاره أو اقتضابه أو إيجازه.. المجد مثل الثقة لا تتجزأ..
يقول كالدويل في مقدمة الكتاب: "أهملت بعض الأمور سهوًا وأسقطت غيرها عمدًا".. من هذا الكتاب الأسطوري لم أجد ما يصلح لأن يسقط سهوًا.. في عام 1987 لم يستطع كالدويل الصمود في صراعه الشرس مع سرطان الرئة، بعد أن قضى التدخين على صحته وقدرته وقوته وبقائه حيًّا يرزق.. عندما أردت اختصار "اسمها تجربة" سقطت أشياء كثيرة من هذا الكتاب سهوًا كما تذكرت دكتور الجامعة عمدًا..