هذه الأيام يهيم الناس على وجوههم سائحين في أرض الله الواسعة.. ومن ألحان بليغ حمدي وكلمات محمد حمزة قدم عبدالحليم حافظ أروع وأشهر أعماله مغنيًا وشاديًا بصرخته الحزينة.. "سواح وماشي في البلاد سواح"..
والأرقام غير المؤكدة تقول إن السعوديين هم الأكثر سفرًا في منطقة الشرق الأوسط، بمعدل أربع رحلات على مدار العام ويصرفون قرابة الثمانين مليار ريال متنقلين على كامل خريطة العالم.. والأرقام ذاتها تقول إن دبي تحصد النصيب الأعلى بوصفها الوجهة المفضلة، حيث يزورها ما يزيد على المليون ونصف المليون في السنة الواحدة.. وللسياح والسائحين رغبات وميول ومقاصد.. أغلبهم يريد تجاوز الروتين القاتل والاستمتاع بالأجواء الباردة هروبًا من درجات الحرارة المرتفعة والتخلص من مسؤوليات العمل والارتباطات الاعتيادية وقضاء وقت قصير لالتقاط الأنفاس.. تتعدد نوايا السياحة وأهدافها عند السعوديين وغيرهم.. كما تتغير نوايا الحياة وأهدافها.. حتى الأصحاب يختلفون.. هذا مع زوجته وأطفاله.. هذا مع أقربائه.. هذا مع أصدقائه.. هذا مع رفاق الصبا.. وذاك مع زملاء العمل.
لا يهوى السعوديون كثيرًا الآثار والمتاحف والأماكن التاريخية.. ليست عادة من ضمن برامجهم وطقوسهم.. الذين كانوا يحاولون إغراءك بالتوجه إلى إندونيسيا يروون لك حكاية الخضرة الممتدة على مد البصر.. يتكلمون عن الجو والمطر.. ويتكلمون عن سعر "التيس" الذي لا يتجاوز ثمانين ريالًا على حد زعمهم.. ربما الأيام تغير الناس.. وسبحان الذي لا يتغير.. سلكت السياحة في العالم العربي في الثلاثين عامًا الماضية طرقًا كثيرة تنوعت وتعددت وتباينت وصارت مهنة وحرفة.. بريطانيا سبقت العالم كله في هذا الحقل المربح.. رجل الأعمال البريطاني توماس كوك أول من نظم رحلات سياحية.. وولدت الفكرة في رأسه عندما كان يسير من سوق هاربروة إلى منطقة ليستر لحضور أحد الاجتماعات، وذلك عام 1841 أي قبل مئة وثمانين عامًا.. وفي الخامس من يوليو في ذلك العام، رافق خمسمئة سائح دفع كل منهم مبلغ شلن وحيد في رحلة داخل بريطانيا.. والشلن بالطبع عملة إنجليزية قديمة وزهيدة.. وبعدها بسنتين نظم رحلات مدرسية.. وفي عام 1846 تطور الحلم وقاد 350 سائحًا من ليستر إلى أسكتلندا.. أما رحلته السياحية الفعلية الأولى فكانت عام 1855 برحلتين تضمان مجموعتين تجولتا ما بين بلجيكا وألمانيا وفرنسا.. وفي العام 1872 أسس وكالة سياحية رسمية..
وتمثل السياحة ما نسبته 5% من الاقتصاد العالمي كما تقول أرقام ليس بالضرورة تصديقها.. وفي هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذه الكلمات وكل لحظة يمكث قرابة واحد وستين ألف شخص على مقاعد طائراتهم فوق أجواء أمريكا.. وبالطبع ليس جميعهم سائحين.. وفي أمريكا ثلث عدد مطارات العالم..
في بداية إبريل من العام 1992 اندلعت حرب البوسنة.. إبريل شهر الأكاذيب.. ليتها كانت كذبة.. استمرت الحرب ما يلامس الأربع سنوات حصدت أرواح قرابة المئة ألف إنسان ما بين جنود ومدنيين.. تحولت سراييفو إلى مدينة أشباح مرعبة لا يرى فيها إلا الدخان والموت والدم.. تلك الأيام كانت الزبداني وبلودان وشواطئ اللاذقية تعج بالسياح العرب والسعوديين يقضون إجازتهم السنوية في سوريا.. تمر الأيام كالسحب المتشابكة.. اليوم تعد الشام المكان الأخطر في العالم.. تتجه السياحة إلى البوسنة الهادئة المطمئنة والمستقرة.. هذا من تدابير الله.. السياحة قبل كل شيء ما هي إلا دليل على الأمن والراحة.. لا يمكنك أن تردد أغنية حليم وتضع رأسك على المخدة آخر الليل وتصرخ مثله سائحًا إلا إذا كان لديك يقين بأن الشارع أكثر أمانًا من غرفتك في فندق على البحر.. السياحة شيء بسيط يعني الأمان..