كتبت قبل يومين عن الهندسة والمهندسين دون إبحار أو تعمق في هذه الصنعة والمهنة المهمة التي غيرت وجه الحياة وغيرت البشرية طوال المائتين عاما الماضية.. وأجدني مضطرا للعودة إلى الهندسة فقط لألقي نظرة الوداع على جثمان المهندس حسن كامل الصباح الذي وافته المنية في نيويورك الأمريكية قبل أكثر من ثمانين عاما.
إذا زرت مدينة النبطية في الجنوب اللبناني فأول ما يستقبلك تمثال برونزي صغير وضعه الأهالي على مدخل بلدتهم الهادئة افتخارا واعتزازا بإنجازات ابنهم الذي كان لديه بوادر واضحة للابتكار قبل أن يتخطفه الموت عقب أسابيع قليلة من احتفاله بعيد ميلاده الأربعين ..عاش أربعين عاما فقط وخلالها حمل لقب "أديسون العرب" .. لم يحتج عمرا مديدا ليحمل لقباً يجبرك على التوقف وقراءة سيرته ومسيرته المكتظة بالأوسمة المزدحمة بالجوائز.. العرب مهووسون بالألقاب .. هذه إحدى طبائعهم وخصائصهم.. طبائع وخصائص تمايزهم وتميزهم عن باقي شعوب العالم وما أكثرها .. أن يرتبط مهندس عرب بالأمريكي الأسطوري توماس أديسون الذي سجلت له أمريكا أكثر من ألف براءة اختراع، يأتي على رأسها الإنارة الكهربائية التي تضيء غرفتك ومكتبك وشوارع حي تسكن فيه، فهذا بحد ذاته تاريخ لوحده .. الارتباط مع أديسون يوحي بالأهمية العلمية والفكرية والإبداعية التي كان عليها حسن كامل الصباح.
أعطى هذا اللبناني ذو الملامح البريئة الهندسة دليلا آخر على أهميتها وهيمنتها وتفوقها أمام كافة العلوم الإنسانية.. أجبره الجيش العثماني على الخدمة العسكرية في بداية القرن الماضي ودخل قسم الاتصالات اللاسلكية وزامل المهندسين الألمان الذين يعتبرون رواد علم الهندسة وأساتذته.. وبعد عشر سنوات تقريبا من هذه العلاقة والتواصل اخترع حسن كامل الصباح جهازا متخصصا بتغيير طابع الصورة الذي استخدم في علم التصوير الكهروضوئي ففتح آفاقا واسعة أمام صناعة السينما للتقدم في الإخراج والإضاءة والتصوير... صالات السينما التي تدخلونا اليوم في دبي والقاهرة ولندن ولوس أنجليس كلها مدينة وممنونة وتتقدم بالشكر الوافر الجزيل للمخترع العربي الكبير المهندس حسن كامل الصباح الذي سجل باسمه أيضا قرابة السبعين اختراعا في مجالات الكهرباء والطاقة، وظل ابن العرب الوحيد الذي نال جائزة فتى العلم الكهربائي من معهد المهندسين الأمريكي.
وإذا كان العرب مارسوا مع الصباح طبائعهم في حياته ونجاحه ومنحوه لقبا لا ينسى، فإنهم أيضا واصلوا المشوار وفتحوا الباب لخصوصيتهم حينما أكدوا أن هذا المهندس البارع مات في الولايات المتحدة الأمريكية مقتولاً ومغدورا بمؤمرة غربية تخشى تفتح وانفتاح العقل العربي.. فالقصة المتداولة والمعتمدة تشير بأن حسن كامل الصباح مات في حادث مروري عادي ووجدوه على مقعد السيارة دون إصابته بأي جروح مما يدعم بقوة ضلوع جهات مجهولة ومشبوهة بمقتله واغتياله.
الصباح المشرق توارى وغاب ومات وخسر العرب مفكرا ومخترعا ربما لو امتد به العمر لأصبح اسما وعلما لامعا في هذا المجال الواسع الرحب بالعلم والإلهام، لكن أمريكا هي أيضا خسرته لأنه فعليا كان الصباح من اكتشافاتها وطلابها وإنتاجها.
أظن لو أن الصباح عاش لاستمر ينعم بالحياة والعيش في أمريكا التي رآها.. لا أظن أنه سيحمل حقائبه وذكرياته وشهادته ويعود إلى أهله وأصدقاء الصبا ومسقط رأسه في الجنوب اللبناني.. لو عاد لما بنوا له تمثالا ومجسما عند مدخل النبطية.. ولما منحوه لقب أديسون العرب.. ولما اعتبروا موته الغامض اغتيالا ومؤامرة..
العرب يحبون أبناءهم ويؤمنون بهم وبقدراتهم ومواهبهم .. بشرط أن يموتوا في نيويورك!