كل المهن تقدمت وتغيرت وتطورت إلا الحلاقة.. لم تستمر تحت الأنقاض ولم تنفض غبار الماضي ولم تبق في غيابة الجب.. وليتها ظلت كما كانت بل تراجعت وأصابها التبلد والجمود والترهل والروتين.. الذي تبدل في عالم الحلاقين هي الديكورات الداخلية والخارجية وملابس الحلاقين التي صارت تحاكي جاكيتات أطباء الأسنان في عيادة المستشفيات الخاصة.. قبل مائتي عام كان الحلاق يلعب دوراً محورياً هاماً في حياة الناس عند الأوروبيين.. لم يكن مجرد رجل يقص شعورهم ويهذب أظافرهم.. كان أيضاً يتولى علاج الأسنان وخلع الأضراس ويجري عمليات جراحية متنوعة متى ما استدعت الحاجة.. الحال لا يختلف في العالم العربي.. تكشف المسلسلات الشامية التاريخية الدور الاجتماعي والطبي الجسيم والهام للحلاقين.. كان الحلاق أحد وجهاء الحارة والمدينة والحي.. يحظى بالاحترام والتقدير والإجلال.. تلك الأيام كانت يديه تتلف بالحرير وبالألماس وبالذهب الخالص..
لدي صديق لا يدخل على الحلاق إلا في الشديد القوي.. عاش في بريطانيا أربع سنوات لم ير وجه حلاق واحد.. يتولى بنفسه حلاقة شعره ووجهه.. حجته في ذلك أن كرسي الحلاق المكان الأكثر قذارة على وجه الأرض..
يتعلمون الحلاقة على رؤوس الأيتام.. مثل شائع يعبر عن أولئك الذين يظهرون قوتهم وقدراتهم أمام الضعفاء.. لكنه في ذات الوقت يضيء في خيالك سؤالاً بريئاً.. في الوقت الحاضر هناك معاهد وأكاديميات تعلم وتدرس الحلاقة.. قديماً لا أعرف كيف يصبح الحلاق فجأة وبلا مقدمات حلاقاً محترفاً.. لا أعرف كيف تعلم ومتى وما هي المدة التي قضاها حتى تمكن وصار مؤهلاً لممارسة المهنة... عبد الحسين عبد الرضا رفض مقترحا لخالد النفيسي ـ رحمه الله ـ حينما عرض عليه مشروع افتتاح محل حلاقة في مسلسل "الحيالة"، ورد النفيسي أن الحلاقة تحتاج "تكسر"، أي يفترض على من يمارسها أن يكون أكثر رقة ونعومة.. اللاعب الإنجليزي آدم جونسون المحكوم عليه بالسجن لمدة ست سنوات بتهمة اغتصاب فتاة قاصر يعمل الآن حلاقاً خلف القضبان ويتقاضى عشرين جنيهاً أسبوعياً.. وليس لدي معلومة عن أسعار الحلاقين داخل السجون وهل هي أغلى أم أرخص في شوارع الحرية..؟ ومواطنه دانييل راكي لاعب هادرسفيلد أجبرته الإصابات المتكررة على الاعتزال فلم يتجه للتدريب أو التحليل وإنما افتتح صالون حلاقة وترزق الله..!!
أما أشهر إعلامية أمريكية طوال العشرين عاماً الأخيرة السمراء أوبرا وينفري والتي تزيد ثروتها عن مليار دولار واحتلت عام 2005 المرتبة الثانية كأقوى الشخصيات تأثيراً في العالم حسب تصنيف "مجلة فوربس".. هذه الشخصية الجامحة كان والدها يعمل حلاقاً قبل أن تبتسم الدنيا لابنته وترك المقص والجلوس خلف ظهور الزبائن وأصبح عضو مجلس بلدي.. وسبحان المعز المذل...!!
ومواطنها المغني الراحل جيسي فورتشون كان يعمل مطرباً يصدح بصوته الأجش كل مساء، بينما يذهب الصباح لعمله ومهنته داخل صالون حلاقة.. وما يقال عن أوبرا وينفري يقال بذات الحجم والكم عن الممثل الأسطوري مورجان فريمان، الذي يعد أحد أروع وأبرز وأفضل من أنجبته السينما الأمريكية على مدار تاريخها الفني العريض.. هذا الأسمراني الطاغي وقاراً وموهبة فذة كانت أمه معلمة، أما أبوه فقد امتهن الحلاقة لسنوات عديدة.
حينما صحوت على الدنيا وصرت أتابع مباريات الحواري والدورات الرمضانية في رفحاء كان هناك لاعب أشقر يتمايز عن أنداده الذين غلبتهم سمرة الصحراء.. اسمه بهيج وجنسيته تركي ويعمل حلاقاً.. كان لاعباً حريفاً يرجح كفة أي فرقة يرتدي شعارها.. لم يرتبط بهيج بذاكرتي كونه لاعباً مبدعاً بقدر ما كنت أستغرب كيف يكون هذا الموهوب الحريف حلاقاً.
هل تعلم بهيج الحلاقة على رؤوس الأيتام؟ .. الله أعلم..!!