يتحفني ويأسرني ويسحرني الكاتب البارع.. يرفع معنوياتي ويجدد دورتي الدموية ويجعلني كالأطفال أرقص من الداخل.. الكاتب المبدع المبتكر يجعلني أحبه وأعشقه وأحترمه وأتمنى لقاءه في أقرب فرصة.. لو التقيت به أظنني سأطبع قبله شكر وامتنان على جبينه وسآخذه بالأحضان وسأصرخ في وجهه كما فعل عادل إمام في مسرحية شاهد ما شافش حاجة وأقول له: "ينصر دينك يا أستاذ نفيسة.." سأروي له كيف كانت حالتي قبل أن أتعرف على كلماته، وكيف انتشيت وشعرت بالفخر والاعتزاز والكبرياء بعد أن قرأت أسطره وأفكاره.. سأعترف وبلا تردد أنه غيّر ذلك اليوم الكئيب إلى رحلة تؤنس قلبي، وتدغدغ روحي، وتطير بمشاعري إلى السحابة القصوى المتوارية وراء الأفق البعيد، ذلك اليوم الذي كانت معنوياتي تحت الصفر، وأوضاعي النفسية متردية، ومزاجي ليس على مايرام.. ذاك اليوم كانت درجة الحرارة تجتاز الخمسين، فكان قلمك وحده الذي لطّف الأجواء وبلل الأرض بالماء والثلج والبرد.. هذا ما سأقوله له دون خجل… ثم أُقرئه السلام وأرحل..!!
الكاتب البائس التعيس لا أستطيع أن أقول له شيئاً، وليس من حقي أصلاً أن أقول.. ومن أجبرني أساساً أن أقرأ له وأضيع وقتي في حضرة جنابه.. هذ الكاتب ليس أمامي إلا أن أهمس في مسامعي وأتكلم مع نفسي وبصوت خافت… إلى متى.. إلى متى؟! وأرجو ألا يسمعني أحد!!
قبل عشرين عاماً تقريباً نشرت جريدة الشرق الأوسط تحقيقاً موسعاً استضافت فيه أبرز الأقلام العربية تحت عنوان.. "لماذا تكتب؟" وجاءت جميع إجاباتهم تدور في فلك واحد فمنهم من قال: "أريد إنارة الطريق أمام الأجيال الصاعدة حتى حتى يتبين لها الخيط الأسود من الأبيض".. وآخر قال: "أسعى لتنمية الثقافة وسط المجتمعات العربية التي تفتقد للقراءة ومحبة الكتب والاطلاع".. وثالث قال: "إن دورنا ككتاب أن نحمل شعلة الوعي إلى العقول الجاهلة".. كاتب واحد هو جهاد الخازن أعطى إجابة مختلفة بقوله: "أكتب لأقبض مكافأتي آخر الشهر"وأظنه كان أصدقهم..!!
تكاثر الكتاب التعساء، وانتشروا وتمددوا وصاروا كغثاء السيل.. قرأت مؤخراً حديثاً لأحدهم يقول إنه سيتفرغ قريباً للكتابة..!
اكتشاف كاتب موهوب أمر سهل وبسيط ولا يحتاج الكثير من البحث والتحري.. الصعب هو سؤال وإجابة أصحابنا التعساء البائسين عمن أقنعهم ومن دفعهم ومن قال لهم إنكم سائرون على الطريق الصحيح.. كيف ولماذا أصبحتم كتاباً..؟
في حالة واحدة يمكن استيعاب العملية والحدث وأبعاده.. إذا كان هدفهم كما قال جهاد الخازن ينتظرون مبلغاً يودع في أرصدتهم آخر الشهر فهنا نفهم ونستسلم.. عدا ذلك فإن المسألة تحتاج نظراً يعاد ألف مرة.. يقولون اختر الكاتب كما تختار الصديق.
الأسبوع الماضي وصل عدد النسخ المباعة للروية الصاخبة.. "هاري بوتر" إلى أربعمائة وخمسين مليون نسخة.. رواية كتبتها البريطانية "جوان رولينج"، وتتناول قصة طفل يغرق في عوالم السحر ويواجه الأشرار ويقاتلهم.. الغرب كله صار مديناً لهذه الكاتبة لأنها ساهمت وبقوة وطوال العشرين عاماً الماضية بربط أطفالهم اليافعين مع الكتب والقراءة والاطلاع.
لسنا الآن بحاجة لأطفال يقرؤون.. نحن بحاجة لكبار يكفون ويتنحون ويعتزلون ويتركون الكتابة لأصحابها وأهلها.. من أجلها ومن أجل أطفالنا وفلذات أكبادنا.
ابتليت بأشكالهم وتورطت بأمثالهم فشوهوا حسنها وأناقتها وحلاوتها وجمالها.. الكاتب التعيس مثل المغني الهابط الذي كانت الجماهير ترميه بالبيض والطماطم كما تدعي الروايات المشكوك في صحتها ومصداقيتها.. وليتها صدقت… وليتهم يتوقفون..!!