|


صالح الخليف
علمني بشير
2017-07-09

الذين ولدوا قبل خمسة وعشرين عامًا، وقبل ثلاثين عامًا وقبل خمسة وثلاثين عامًا لم يسعفهم الزمن للتعايش مع ظاهرة استثنائية، تدعى بشير حمد شنان.. قبل أربعين عامًا مات في ظروف غامضة.. دارت حوله الشائعات والإشاعات.. وكلام تواتره الناس كما تتواتر أوقات الليل والنهار.. عاش حياة غريبة ومات موتة تعددت فيها الروايات والمصادر.. موتته ـ رحمه الله ـ وأسبابها وأسرارها ليست قضيتنا.. حكايتنا حياته الصاخبة، أو جانب منها فقط، والتي ظلت بلا سبب أسيرة للتجاهل والتهميش والإقصاء.. حينما بدأت مسامعي تطرب للفن والموسيقى، وجدت بشير وجهة مثالية منتقاة تتوافق مع ذائقتي ومزاجي.. التعلق بفنان مثل بشير كان فعلًا مخجلًا.. كنت احتاج إلى شرب حليب السباع حتى أتعامى عن محيط يحيط بي إحاطة السوار بالمعصم.. وأصرح بحرية تامة عن حبي وإعجابي وتقديري بذلك الصوت الطربي الفاتن الأخاذ..

 

مثل بشير رأس الحربة ورأس القائمة ورأس الطوربيد في ولادة الفن الشعبي السعودي.. لم يكن بحاجة إلى أكثر من قرابة الثمانية وعشرين عامًا حيًّا يرزق على هذه الأرض ليقدم أربعمئة أغنية تجاوز في بعضها الخطوط الحمراء والخطوط البيضاء والخطوط البنفسجية وخطوط الطول والعرض.. أغلب محلات التسجيلات الفنية كانت تبيع أغانيه خلسة ومن وراء حجاب.. اعتمد على نفسه من أجل أن ينتصر لموهبته وفنه.. يكتب ويلحن ويعزف ويغني.. كان هو الشاعر.. وقد روى ضمن لقاءاته الإذاعية النادرة قصص وحكايات كتابة قصائد سرد ووصف فيها أحداثًا تنقلك إلى الواقع بكل تفاصيله.. شعر الوصف هو الأصعب.. المدح والهجاء والرثاء أنماط سهلة.. حينما تمدح أحدًا بما فيه أو ليس فيه وليس في البشر أجمعين فلا لائمة عليك.. 

 

هو الكلام على الفضاء المفتوح.. وحينما تهجو أحدًا وترميه تحت الأراضين السبع أيضًا فلا لائمة عليك.. هي تقاسيم الكلام على الأرض الحدباء.. وحينما ترثي أحدًا.. فهو البكاء والمدامع ليس لها نهاية ومنتهى.. أما الوصف فإنك مجبور أن تتحول إلى كاميرا لا يراها أحد.. وتلتقط مشاهد تعكس كل شيء حولك بالصوت والصورة.. هنا الصعوبة والمجازفة.. وهكذا كان بشير يكتب قصائد تسعى وسط تفاصيل الحلم والألم في واقع يتحدى كل شيء.. كان هو الملحن اليتيم.. لا أحد يلحن أغاني بشير.. المضحك المبكي أنه مات وتسابق عبد الله الرويشد وأحلام ونوال وزهرة التونسية وراشد الماجد وعشرات الأسماء الفنية في الخليج على اختلاس ألحانه.. تعرض إرثه الفني الكبير للسرقة في وضح النهار.. وحفظت القضية ضد مجهول!!..

 

هو العازف والموسيقار.. لم يكن يملك فرقة ماسية ولا كورال ولا كورس.. كان يغني ويتسلطن في أجواء مروعة.. في أزقة الحارات المنسية وأسطح البيوت العتيقة والساحات المنزوية قدم بشير إرثًا وتراثًا يستحق الفحص والدراسة والتحليل..

 

أحد عشر عامًا فقط هي العمر الفني لذاك الشاب الأسمر الذي اختطفه الموت مبكرًا.. وأظن لو أعطاه الله عمرًا مديدًا لكان حدثًا فنيًا يتجاوز صيته وصداه الآفاق..

 

علمني بشير حمد شنان درسًا مهمًّا ليس بالضرورة أن أطبقه أو أؤمن به.. وليس كل الدروس التي نتعلمها قابلة للتطبيق.. علمني الدرس وليس بالضرورة أن أكون طالبًا نجيبًا.. علمني أن الإبداع والمبدع لا يحتاجان إلى إمكانيات ومساعدات وأموال طائلة.. يحتاج إلى الإيمان بقدراته.. كان بشير جيلًا فنيًّا لوحده.. كان هو ذاك الذي قال عنه توفيق الحكيم: "الفن واسع، لكن عيون الناس هي الضيقة"..

 

اعذرني يا بشير.. حتى  المساحة ضيقة.. لا أستطيع أن أكمل.. أستطيع أن أتذكر دائمًا أنك صوت الصبا الذي لا ينسى.. رحمك الله وغفر خطاياك وذنوبك..