تصدر مصر للعرب والعالم مئات الجراحين والأطباء والمهندسين والخبراء والمدرسين والاستشاريين.. لكن لم تقدم سوى محمد لطيف وعلي محمد علي وبلال علام.. ربما هناك معلقون مبدعون آخرون.. أنا لا أعرفهم.
بلد مثل المملكة العربية السعودية، يحب أبناؤها وشبابها كرة القدم حبًّا جمًّا.. وما زالت حتى اليوم تستعين بصوت عربي أو خليجي؛ من أجل وصف مباراة على شاشة قناتها الرسمية.
قبل يومين أعلنوا أن الإماراتي عامر عبد الله سيتصدى لمهمة الوقوف خلف المايكرفون، في مواجهات البطولة العربية عبر القناة الرياضية السعودية.. ما يقال عن مصر يقال تمامًا عن السعودية.. عشرات المبدعين يظهرون كل عام وفي كافة المجالات إلا التعليق.. هذه مهنة معقدة وغريبة وصعبة، ويبدو النجاح فيها مثل الفوز بجوائز اليانصيب، التي تجعل بين عشية وضحاها الفقير ثريًّا وبلا مقدمات.
مهنة ومهمة تتطلب الصوت والتركيز والدقة والحياد والموضوعية والاستقلالية، وخفة الدم والمعلومة والصبر والهدوء والقبول والشمولية.. صفات لو اجتمعت في شخص واحد؛ لاستحق أن يكون أمينًا للأمم المتحدة.
كثيرون يستسهلون مهنة التعليق ولا يعطونها قدرها وحقها ونصيبها من الاحترام والمهابة والتقدير.. لا أحد يحاكي نفسه إلا المرضى النفسيين الموسوسين.. لا يعرفون أن المعلق شبه عاقل ونصف مجنون.. إذا لم تصدقني فتعال وخض التجربة بنفسك، ثم أحكم وأنا راضٍ بحكمك.
افتح اليوتيوب واختر مباراة قديمة لفريقك المفضل واخفض الصوت.. ثم تولَّ أنت التعليق بالنيابة عن زاهد قدسي أو محمد رمضان أو أكرم صالح.. إذا أمضيت الدقائق الثلاث الأولى دون ارتباك أو خروج عن النص، أو إسفاف وضحك وبحياد تام.. دون صراخ ودون كلام لا معنى له، ففي هذه الحالة أسرع وأعرض موهبتك على إحدى القنوات.. والأرزاق بيد الله.
الإنسان بطبعه وطبيعته ميال للتواصل مع الآخرين، وإذا تكلم يحتاج إلى ردود سريعة أو متأخرة.. المهم الرد.. محمد عبده يصدح: "ردي علي ردي وخذي العمر كل العمر مهر".. يعطيها عمره كله مقابل رد!.
يجلس المعلق في غرفة مغلقة، ويضع سماعات كاتمة تحجب عن أذنيه أي صوت يربكه.. ينعزل تمامًا عن العالم.. يبدأ المهمة مع صافرة الحكم أو قبلها بقليل.. يتفرج على اثنين وعشرين لاعبًا، يركلون جلدًا منفوخًا فوق عشب أخضر.. يتابع حركة أقدامهم وأجسادهم، ويتابع الجالسين على مقاعد الاحتياط، ويتابع حركات الجماهير ويتابع الوقت.. يتابع كل شيء إلا نفسه.. يتجرد من أهوائه وأمنياته.. يعيش تحت الضغط.. يتذكر أن المشجع لا يرحم.. والصحافة لا ترحم.. والقناة التي يعمل بها تأخذ به لومة لائم.. ولا يهمها من يكون هذا اللائم.
يخاف أن تأخذه غفوة أو هاجس عابر أو سنة أو نوم، فتصبح فضيحته بجلاجل كما يقول المصريون.
أحد الزملاء في الجريدة سأله ولده الصغير: كم راتب فارس عوض.. فأجاب الأب: أظنه كثيرًا.. فقال: سأصبح معلقًا.. أظنه أول طفل في التاريخ يحلم بأن يكون معلقًا.
الأسئلة والاستفسارات عن التعليق وأسراره كثيرة.. والإجابات لا يعرفها إلا من عنده علم.. كم رواتبهم.. كيف أصبحوا معلقين.. لماذا المنتمون للمهنة هم الأقل في كل مكان؟.
المعلق البريطاني في محطة بي بي سي موبري، يتحدث متذمرًا عن عمله ويقول: "إذا كنت حكمًا فسيتذكرك الناس عندما تؤدي مباراة بشكل سيئ، وهكذا أصف التعليق أيضًا".
ليس سهلًا أن تكون طبيبًا وجراحًا عالميًا ناجحًا تداوي قلوب مشاهير العالم مثل مجدي يعقوب.. ليس سهلًا أن تكون مهندسًا معماريًّا ترسم وتخطط المدن والمباني الشاهقة، وسط عواصم الدنيا مثل زها حديد.. وليس سهلًا أن تكون مجرد معلق.