|


صالح الخليف
فهد عافت وخالد السلامة.. وأنا
2017-07-06

نشرنا أمس في هذه الصفحة، خبرًا مهمًّا عن إجازة فهد عافت.. لقرابة ثمانية أشهر ظل يكتب يوميًّا دون انقطاع.. اعتاد كتابة مقال عميق وصعب.. لذا فالكتابة أو الكلام عن فهد عافت ستكون هي أيضًا صعبة، والأكثر صعوبة أن تكتب مكانه..!


سيغيب لمدة ثلاثين يومًا تقريبًا.. وعلى الأرجح سأحل في محله.. وهنا تأتي أهمية خبر الإجازة.. على الأقل بالنسبة لي..!!


المطمئن والمريح أنه مقال يومي.. والمقال اليومي بسيط وسهل.. وزي شرب الماء.. الفكرة هي أصعب ما يواجه الكاتب.. إذا وجدها انتهى كل شيء.. الأدوات متوفرة.. واللغة بحر متلاطم.. والكلمات على قفا من يشيل.. الكتابة اليومية يحل لها ما يحرم على غيرها.. يوم الاثنين تكتب عن بيل جيتس.. والثلاثاء تكتب عن سائق تاكسي، نقلك إلى مطار القاهرة في أحد أيام الشتاء.. يوم الأربعاء تكتب عن جريمة قتل بشعة، ارتكبتها عصابة وسط العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس.. ويوم الخميس تكتب عن السر في استقرار أسعار الطماطم.. اكتب عن أي شيء.. وكل شيء.. ولن تجد أحدًا يلومك..!!


في الجريدة واجهتنا مشكلة بسيطة ليس لكم علاقة بها.. عافت سيغيب.. ونحتاج إلى من يتولى المهمة..


يبدو محرجًا ـ وربما مهينًا ـ أن تقول لكاتب تفضل واكتب مقالًا يوميًّا، لكن لمدة شهر فقط.. لأنك بديل واحتياطي.. حتى إن كان لكاتب مهم وفي صفحة مهمة..


مقاعد الاحتياط غير مريحة، وتشعرك بالنقص والإحباط.. أحد عشر لاعبًا يركضون على العشب الأخضر.. الأقل موهبة يتفرجون على المباراة بجانب المدرب.. التفاوض مع أحد يتولى المهمة لم يكن خيارًا مطروحًا أبدًا.. اتفقنا أن أتولى الأمر حتى حين.. نعمل صحافيين ولسنا كتابًا..

أحيانًا نتطفل ونزاحم أصحاب الرأي.. نعود بسرعة إلى أدراجنا ومكاتبنا ومتاعبنا.. الصحافة عملنا الذي يوفر لنا الراتب والمعاش ولقمة العيش.. من ضمن واجباتها عليك أن تكون مستعدًّا دائمًا لدور البديل.. وليس الكتابة فقط.. هي مهنة المتاعب ومهنة البدائل..


حتى اليوم يراها كثيرون مهنة مؤقتة واحتياطية.. 


في هذا العيد سألني أحد أقربائي عن عمل حكومي ألتحق به بدلًا منها.. أصابني الصمت وسكت..!!


كثير من اللاعبين يهجرون أنديتهم الكبيرة والشهيرة بسبب مقعد الاحتياط المنحوس.. هذه ظاهرة عالمية وليست محلية فقط.. أسماء كروية لامعة تركت ريال مدريد ومانشستر وميلان.. وراحت ترتدي شعارات فرق صغيرة.. فقط لأنها لم تحتمل الجلوس بجوار المدربين..!


قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا.. جاء إلى رفحاء الفنان الشعبي خالد السلامة.. أحد أبرز الأصوات الطربية التي أنجبتها حائل.. جاء لإحياء حفل زواج.. الأعراس في رفحاء تتراقص عادة على الدحة والعرضة والسامري.. ليس في ثقافتها إحياء حفلات غنائية.. هذه حكاية يطول شرحها.. الذين يعزفون على العود في رفحاء قلة تتوارى خلف الأبواب الموصدة.. كان هناك مطرب لم يفهمه ولم يقدر موهبته أحد.. اسمه أبو النشمي.. تجمهر حول خالد السلامة المئات جلوسًا ووقوفًا.. تستمع وتستمتع بالقادم من وراء جبال أجا وسلمى.. غنى خالد السلامة من الساعة التاسعة حتى مطلع الفجر.. أطرب الحاضرين وأشبعهم وأرواهم فنًّا.. لم يعتادوا التعايش معه إلا من خلف سماعات سياراتهم.. كل من تسمر أمام خالد السلامة في تلك الأمسية.. سيعدها ويعتبرها واحدة من ليالي ألف ليلة وليلة.. وحده أبو النشمي غادر جريحًا ومجروحًا.. في منتصف الحفلة.. أخذ خالد السلامة قسطًا من الراحة.. بذل جهدًا مضاعفًا.. همس في أذن أبو النشمي وطلب منه تأدية أغنية.. تكون بمثابة الفاصل بين الوصلتين ليلتقط هو أنفاسه.. لم يكن هناك فرقة.. خالد السلامة يعزف ويغني ومعه "مروس" يتيم.. أصوات أوتار العود كانت صاخبة ومزلزلة.. أخذ أبو النشمي العود.. قضى قرابة الخمس دقائق يوزن الأوتار مع تناغم حركة أصابعه.. ارتضى أن يكون احتياطيًّا.. جاءته الفرصة التاريخية ليبعث رسالة لبلدياته وأبناء ديرته وعشيرته الأقربين.. مفادها أنه فنان عظيم، لكنه فقط يحتاج إلى الفرصة والمستمعين..


بدأ يعزف.. اختار أغنية "هل رأى الحب سكارى... مثلنا"، للسيدة أم كلثوم.. أغلب الحاضرين لم يكن يعرف الأغنية الموغلة في دهاليز الموسيقى.. أصيبوا بصدمة الانتقال الفجائي من اللحن الشعبي المتوائم مع أسماعهم وبيئتهم.. إلى طرب لا يشبههم وليس لديهم أي استعداد للتعاطي معه.. قذف أحد المراهقين قطعة حجر صغيرة أصابت العود.. كانت بمثابة صرخة احتجاج ورفض للأغنية والمغني.. توقف أبو النشمي.. أحس بالهزيمة والانكسار.. عاد خالد السلامة مجددًا.. لأن اللاعبين الاحتياطيين لا يمكثون طويلًا تحت الضوء..


وفروا أحجاركم.. اطمئنوا.. سيعود عافت قريبًا كما عاد خالد السلامة.. وأنا لن أكمل الأغنية..!!