|


صالح الخليف
أتعبتنا.. أيها المريح
2017-05-13
يأتي الحزن على الموتى مريحاً.. تحزن على الموجوع، وتحزن على المريض، وتحزن على ذاك الذي تحاصره الهموم والديون والمصائب.. الحزن على الميت مرتبط بوثاق لا انفصام له مع إحدى الراحتين.. اليأس راحة.. يضعك أمام الحقيقة الجارحة.. لا شيء يؤذيك أكثر من الأمل.. الأمل سراب لا ينقطع.. اليأس مريح.. وليس هناك أكثر يأساً في الحياة كلها من عودة الموتى.. والميت مسافر لا يعود.. حكمة الله في أرضه والله أحكم الحاكمين.
مررت بمئات الوجوه في صالة المغادرين.. كثيرون أصابوني بالحزن والوجع.. وكثيرون أصابوني بمرارة الألم والأسى والجزع والاغتمام..
كثيرون جرحني غيابهم، وفجعني رحيلهم وأشجاني ارتحالهم.. الحزن مثل الموسيقى درجات ومقامات.. أظنه أيضاً مثل الضحك ومثل الحب ومثل السجن.. تفسير الأحزان يحتاج إلى كلام طويل يربك المزاج والنفس والدموع.. حتى الكتابة عن الموت مرتبكة وجارحة..
برسالة "واتساب" عرفت أن محفوظ بن زومة مات.. والموت أحياناً كالضيف الكريه، يطرق الباب بلا موعد.. لا يمكن أن تصفه إلا برجل يستطيع تغيير رؤيتك ونظرتك وتعاطيك مع هذه الدنيا.. جلست معه مرات معدودات.. كانت كافية لمن يرضى ويقتنع، أن النهر تكفي منه شربة واحدة في أشد أوقات العطش..
يعلمك الفقر والحاجة دروسًا لا تنتهي من دروب الحياة الوعرة.. ماذا يعملك المال والغنى والثراء..؟ لا شيء سوى أن الحياة حلوة بس نفهمها..!!
كان محفوظ بن زومة ـ رحمه الله ـ واحدًا من ألمع رجال المال والأعمال، لكن لا أحد يعرفه خارج محيطه.. لا تنام صورته داخل أرشيف الجرائد، وليس له موضع قدم بين المتزاحمين على الضوء وسط مؤتمرات وندوات الاقتصاد.. من الصفر سجل نجاحات تستحق أن تروى لأجيال متعاقبة، وظل ذلك الإنسان الجنوبي الذي لم يغير المال لغته وهيئته وأسلوب حياته.. لا أعرف ماذا أروي عنه.. لا أدري أي قصة تستحق أن تنقل على لسانه.. أرهقني الحزن عليه أكثر مما كنت أتوقع.. أتعبني هذا الحزن عليك يا أبا خالد.. كنت أظن أنك والد صديق لا أكثر ولا أقل..
أظنك غيرت شيئًا في قلبي عن الأثرياء في حياتك.. وغيرت حتى فلسفة الحزن بمماتك.. قبل وفاته بأسبوع ماتت شقيقته عزيزة.. فقال في مجلس العزاء: "الإنسان يعيش طول حياته في غفلة، وإذا مات صحا وتنبه".
أجمل وأصدق ما قيل عنه سمعته داخل منزله بعد رحيله..
قال أحدهم: "كان مريحاً في حياته، وكان مريحاً في مماته".
مات بهدوء على فراشه كما عاش طوال حياته إنساناً هادئاً.. أخفق المال في تغييره.. الفلوس تغير النفوس.. من الصعب تغيير عبارة كهذه.. غيرها ومات..!!
كل شيء عنك ومنك وفيك كان مريحاً يا أبا خالد.. إلا الحزن.. آلمنا وأتعبنا.. وأرهقنا.. سامحك الله وعفا عنك.. وجمعك بالشهداء والصديقين يوم لا ينفع مال ولا بنون..