يقول الفيلسوف الألماني الراحل قبل قرابة المائة عام، فريدريك هيجل إن الفكرة تتطور على ثلاث مراحل رئيسية: الإثبات ثم النقض ثم الخلاصة.. وإذا كنت أملك الحق في الرد عليه أو مجاراته، أقول إن الفكرة الأخاذة والمبهرة والساحرة لا تحتاج إلى نقض أو خلاصة ولا تطوير.. الفكرة العظيمة تولد وتقاتل وتعيش وتفرض نفسها من اللحظة الأولى وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. الفكرة المبهرة لا تحتاج إضافات أو بهارات أو زيادات.. عندما تخرج للضوء تجلس في مكانها صامدة واثقة مثل تلك الأشجار الشاهقة في غابات أوكيجاهارا اليابانية، والتي صارت مرتعاً ومنصة لكل من أراد الانتحار وكتابة السطر الأخير من حياته. هناك أفكار كثيرة استمرت في أوجه التغييرات.. وهذا هو الأهم.. أعتقد أن الفكرة ليست بقيمتها المعنوية أو المالية أو الاجتماعية وإنما ببقائها واستمراريتها، وأكثر ما يمكن الاستشهاد به في هذه الحالة هو تلك القطعة الدائرية الصغيرة المدعوة (فلافل).. إنها فكرة جهنمية لا أحد يدري كيف بدأت ومتى ولدت وأين ترعرعت.. ما يعرفه الكثيرون في العالم العربي من محيطه إلى خليجه أن الفلافل خيار مفضل في أغلب الأحيان على مائدة الإفطار.. لا أظن أن هناك عربياً بلغ سن المراهقة ولم يتذوق الفلافل، فهي منتشرة بشكلٍ واسع في الخليج ومصر والسودان وبلاد الشام وعلى نطاق ضيق في المغرب العربي. في المدارس السعودية مثلاً تعد الفلافل أبرز الوجبات التي يفضلها الطلاب عندما يتزاحمون على المقصف خلال فترة الفسحة.. أحد أصدقائي يقول إن الذي خلط تلك المكونات وصنع الفلافل أكيد شخص (محشش). ويقال إن الإسرائيليين يستعدون لاستقبال الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمائدة طعام فاخرة تتصدر خلالها الفلافل قائمة الأصناف، الأمر الذي أثار الغضب في نفوس الفلسطينيين.. معتبرين أن أصحاب الدولة العبرية سرقوا منهم كل شيء.. سرقوا الوطن والتاريخ والتراث؛ والآن جاء وقت يسرق فيه الإسرائيليون الفلافل، ويضمونها إلى ثقافتهم الطعامية ويتباهون بها أمام رجل سياسي من العيار الثقيل. هذا دليل جديد ليس على أهمية وقيمة الفلافل كطعام ارتبط معه البسطاء بعلاقة وثيقة منذ عشرات السنين ولكنها الفكرة الأخاذة التي صمدت وبقيت على حالها رافضة أي أفكار أو تطوير. وأعتقد أن فيلسوف ألمانيا الراحل لو كان حيّاً يرزق وعرف الفلافل عن قرب لربّما تراجع عن أقواله وأيدني وأكد أن الفكرة الاستثنائية يجب أن تولد كبيرة ومتألقة ورائعة وتبقى على وجه الحياة كما ولدتها أمها؛ رافضة التغيير والمكياج والمحسنات مهما كانت قيمتها. الفلافل ليست سوى دليل.. أما إذا كنت سأبحث عمن هو صاحب الفكرة البسيطة، فبالتأكيد أنني سأتعب ولن أصل لكلمة سواء.. فالجميع سيقولون هذه لنا.. سيتعارك الأتراك والمصريون والشوّام على ولادة الفلافل، وكلٌّ سينسبها إلى نفسه.. الأهم أنني أتفق وبشدة مع صديقي الذي قال: إن من فكر أول مرة بالفلافل وطريقة صناعتها هو محشش.. ومن أيّ بلدٍ كان.