الذين كانوا طلاباً على مقاعد الدراسة قبل خمسة عشر عاماً وأكثر شاهدوا بأم أعينهم مناظر مروعة وبشعة لا يصدقها تلاميذ مدارس "اليومين دول". درست في متوسطة رفحاء، وكان الطريق إلى المدرسة أشبه بالطريق إلى الجحيم.. كانت رحلة عذاب يومية، لأن مدير المدرسة وعصبة من المدرسين الذين كذب عليهم أحمد شوقي، وقال لهم في لحظة شاعرية ساذجة: "كاد المعلم أن يكون رسولاً"، حسبوا -والله حسيبهم- بأن الجلد والضرب وتوجيه الإهانات هي أحد أهم قواعد العملية التعليمية والتربوية.. كانوا يسومون الطلاب سوء العذاب.. حولوا المدرسة إلى ما يشبه معتقل الكتراز، ذلك السجن الأمريكي الشهير المشيّد فوق جزيرة خليج سان فرانسيسكو. سياسة الضرب بكلّ أنواعه وأشكاله كانت سائدة ومسيطرة.. الغائب يجلد.. والمتأخر عن الطابور يجلد.. والذي يضحك داخل الصف يجلد.. عوالم وأجواء لا تنتهي من أصناف الجلد دون مراعاة درجة الحرارة التي تهوي تحت الصفر في شتاء الشمال القارس بثلاثة أو أربع درجات.. ودون حساب أو رحمة أجساد نحيلة لطلاب في عمر الزهور. ولم تغب تلك المشاهد المروعة سوى مرة واحدة.. والسبب مضحك مبكٍ معاً.. ضحك كالبكاء.. الطلاب واقفون في طابور الصباح والإذاعة المدرسية تزف الخبر.. وتعلن عن أن ذلك اليوم الدراسي سيكون موعداً وردياً خالياً تماماً من أيّ إجراءات تعسفية، فلا جلد ولا مجلودون، أما السبب فهو النكتة بعينها التي لا تصدق.. لكنها الحقيقة.. السبب أن مدير المدرسة رزق في ذلك اليوم بمولود جديد ودوت داخل منزله صرخة بريئة، وفي مناسبة كهذه وظرف كهذا لا يفترض أن تدوي داخل المدرسة أي صرخات. وما كان يحدث في متوسطة رفحاء يتكرر بشكل أو بآخر في مدارس كثيرة من القريات إلى جيزان قبل أن تتدخل الوزارة وتمنع الضرب وتوقف مسلسل الرعب. قبل يومين وافق مجلس الوزراء بنقل الإدارة العامة للصحة المدرسية إلى وزارة الصحة إضافة على إجراءات مهمة مرتبطة بتفاصيل وتبعات القرار، وهذه خطوة ضرورية وكبيرة في الاتجاه الصحيح. فسلامة وصحة أولادنا وفلذات أكبادنا عندنا بالدنيا.. وإذا كانت وزارة التربية والتعليم أعطت الصحة الجسدية كل الاهتمام، فإن الصحة النفسية تحتاج هي الأخرى لاهتمامٍ مماثلٍ وشخصي من الوزير نفسه الأمير فيصل بن عبدالله.. فزيارة واحدة على موقع اليوتيوب ستكشف لك سمو الوزير وجهاً آخر من عذابات طلابنا لا تقل وحشية وهمجية عن ما كان يحدث في متوسطة رفحاء قبل سنوات طويلة.. هناك يا سمو الوزير عشرات المشاهد والمقاطع التي تتدفق إلى عالم الإنترنت تدمي العيون وتقطع القلوب، أبطالها مدرسون وإداريون يفتحون كاميرات جوالاتهم لتصوير طلاب أبرياء صغار لحظة ضعفهم وبكائهم.. ثم ينشرون هذه المقاطع ليستمتع الناس بها في لحظات الاسترخاء. نعرف تماماً أنها تصرفات فردية ونعرف أنها لا ترتقي لمستوى الظاهرة لكنها موجودة وبكثرة وإذا لم تتم محاصرتها من الآن فإننا موعودون بطلاب أصحاء جسدياً مرضى نفسياً. أوقفوا هذه المآسي يا سمو الوزير بكل الطرق الممكنة.. فبكاء الأطفال ليست أضحوكة، وليست ملاهي ولا حتى كوميديا سوداء.. هل يرضى أحد أن يسخر الآخرون من أطفاله وأبنائه ويصورها وينشرها.. وأين؟ في المدارس.. إنها كارثة.. إنهم يدمرون الأطفال الصغار بكاميراتهم التي نتمنى أن تتكسر فوق رؤوسهم.