|




عدنان جستنية
أسعد عنقود عنبفي التاريخ
2012-02-19

مع نفحات يوم فضيل أصغيت مستمعاً ومستمتعاً إلى خطبة الشيخ (خالد تركستاني) إمام وخطيب مسجد اللؤلؤة بمحافظة جدة وهو يسرد سيرة عطرة لهادي البشرية سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- هزت مشاعري بما فيها من مواقف مؤثرة لما واجهه عليه السلام من مصاعب في بداية دعوته للإسلام أحببت أن يتأملها القارئ الكريم في أجواء إيمانية بعيداً عن أجواء الكرة لما احتوته من مواعظ وعبر، لها علاقة بواقع زمن المعاصر لعل في مضامينها تعم الفائدة الجميع: ‫- في شوال سنة 10 من النبوة، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوته إلى الطائف طالباً من أهلها مساندته ونصرته، وهناك لقي ثلاثة إخوة من ساداتهم وعرفهم بنفسه وما يريد، فقال الأول عبد ياليل بن عمرو في قلة أدب واعتراض على اختيار الله لرسول الله: أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!.. وقال الثاني مسعود بن عمرو : أما وجد الله أحداً غيرك؟!.. وقال الثالث حبيب بن عمرو: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً، لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك! ومع ذلك لم ييأس رسول الله من ذلك، بل مكث في الطائف عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاء وكلمه.. وردوه جميعاً! حتى إذا جاء اليوم العاشر قالوا له اخرج من بلادنا، وأرسلوا خلفه عبيدهم وسفهاءهم، فصفوا أنفسهم صفين خارج الطائف وجعلوه يمر من بين الصفين وهم يقذفونه بالحجارة ويقذفونه بأسوأ الكلام والسباب، حتى سالت دماؤه الشريفة على كعبيه وتلون النعل بالدم، وكان زيد بن حارثة يبذل كل طاقته لتلقي الحجارة في جسده، بل في رأسه حتى لا تصيب رسول الله حتى شج رأسه، ورسول الله يسرع الخطا بين الصفين حتى انتهى منه، ويمم عائدًا إلى مكة، لكنهم لم يتركوه، بل ظلوا يتعقبونه بالحجارة والسباب مسافة خمسة كيلو مترات تقريبًا من الطائف، وهو لا يدري ما يفعل.. رجع بحاله تلك كئيباً, محزوناً, كسير القلب, قد أجهد أيما إجهاد‬. ‫فلم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب المعروف اليوم بالسيل الكبير. فرفع رأسه فإذا بسحابة قد أظلته، فنظر فإذا فيها جبريل، فناداه فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداه ملك الجبال، فسلم عليه، ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين أي: لفعلت.‬ ‫- إنها لحظة يحلو فيها الانتقام، وفرصة لشفاء الغل، وسحق الكافرين، وما هو بملوم، لقد كذبوه، وآذوه، وقتلوا أصحابه، وفتنوهم في دينهم، وعذبوهم، واضطروهم للهجرة مرتين، ولا يزالون حجر عثرة في طريق الدعوة، ونشر دين الله.‬ ‫ولكنه اختار أروع وأفضل وأسمى من الانتقام، وأجل وأعظم من حظ النفس، وراحتها، وهناها، فقال للملك: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً!.‬ ‫- ولسائل أن يسأل ما أثر كل ما رآه (صلى الله عليه وسلم) في هذه الرحلة الشاقة؟! يتضح الجواب على ذلك فيما قاله (صلى الله عليه وسلم) لزيد بن حارثة رضي الله عنه مولاه وحبه الذي رافقه في رحلته تلك لما سأله: كيف تعود يا رسول الله إلى مكة وقد أخرجوك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً و مخرجاً، وإن الله ناصر دينه و مظهر نبيه)‬. ‫إنها نظرة مستقبلية يغمرها الأمل، لقد كان على يقين أن الأيام تتقلب، وأن الزمان كفيل بتغيير منطلقات المعاندين الفكرية ومداركهم، وهؤلاء وإن كانوا في سكر ومدامة لا يرجى منها إفاقة، فالرجاء والأمل ما زال كبيراً في أن يخرج من أصلاب هؤلاء الأموات أحياء.‬ ‫- إنها نظرة في غاية العمق والبعد يكتنفها الصبر والأمل والحدث يجلي نظرة الإسلام لمن يعاديه، ويحاربه، إنها نظرة لا ترسخ العداوة الأبدية، بل تتوقع الخير في كل من يجابهه، وتحسن الظن بهم، وتلتمس الأعذار، ومن هذا الحدث يتبين لنا أن من الخطأ المحض اللجاج في العداء، وبناء الحواجز النفسية بين دعاة الدين، وأرباب الأدب، ورجال الفكر، وكتاب الصحف، ورجال الإعلام، وفئات من المجتمع؛ لأنهم يرونهم أعداء، مغربين، ومستغربين، ودعاة فجور، وسفور‬. ‫- إن افتعال معارك بين أبناء الأمة، والتربص بهم، وتمني هلاكهم، ليس من هدي النبوة، ولا من شيم السلف، فالحدث النبوي يرسم منهج النبوة، ومنهج القرآن لا مع أبنائه ممن اختلفت معهم وجهات النظر فحسب، ولكن حتى مع ألد أعدائه وخصومه.. وردم الفجوة مع المختلف معهم ممكن، غير مستحيل، إذا ما أردنا ذلك وكنا صادقين مع أنفسنا.. فلنترك بيننا وبين مع اختلفنا معه مساحة ونقطة التقاء، ولا نغلق أمامه كل منفذ للهواء، ولنسع الناس بصدورنا، ولنتفهمهم كما نحب أن يتفهمونا.. إن عملية الإصلاح ليست هينة، ولهذا اختار الله لها صفوة الخلق وأقواهم، والنفوس الكبيرة تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد.‬ ‫- لما آذى سفهاء الطائف نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-, أوى إلى شجرةِ عنب يُناجي ربه في ظلها فأقبل (عداس) خادم البستان بقطف عنب فلما وضعه بين يدي الرسول, مد يمينه قائلاً: (باسم الله), ثم أكل فقال عداس: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد؟.. قال الرسول: ومن أي البلاد أنت يا عداس, وما دينك؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى.. قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟.. قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ذاكَ أخي, كان نبيّاً, وأنا نبيّ.. ‬‫فأكبّ عدّاس على يد رسول الله يقبلّها معلناً شهادة التوحيد.. وبذلك أضحى هذا العنقود, أسعد عنقود عنب في التاريخ.‬