|


صالح الخليف
والمجانين هربوا
2018-09-20
ما عادت الصحافة مهنة مغرية وبيئة جاذبة لأولئك الباحثين عن لقمة عيش هانئة كريمة.. هذا أحد أسباب التراجع أيضًا.. الحياة معركة عليك خوضها بكل الأسلحة المشروعة.. إذا كان العمل مسألة اختيارية فإنك حتمًا ستتجه صوب الجبهة الأكثر استقرارًا وأمانًا.. المغامرة لا يخوضها سوى الشجعان.. والشجاعة إحدى صفات المجانين..
العقلاء لا ينجرفون وراء عمليات غير محسوبة النتائج.. طوال عمرها كانت الصحافة تفتقد ما يسمى الأمان الوظيفي.. موقف عابر مع رئيس التحرير قد يرميك في العراء بلا وظيفة ولا أمان ولا دخل ولا راتب ومعاش يسير حياتك ومعيشتك.. بعد الجامعة أتيح لي العمل الحكومي لكنني هربت في وضح النهار.. ما كان لي مكان بين العقلاء.. بعد تسارع رحلة العمر القصير أتساءل مع نفسي: هل أتوقف وأبكي على اللبن المسكوب وأتحسر على الاختيار الخاطئ، أم أنني فعلًا ذهبت في الاتجاه الصحيح واخترت المكان الأكثر تواؤمًا مع طبيعتي وذائقتي ومزاجي؟! الخوف من فقدان الوظيفة هو واحد من أسباب تراجع الصحافة.. تركها أهلها وأصحابها وذهبوا بحثًا عن الأمان ولا أحد يلومهم.. خلت الساحة لفئة تسمى وتدعي بالدخلاء فتراجع مستواها وقيمتها وقوتها وهيبتها.. هذا التقاطع والتشابك بين ممارسة المهنة المعقدة وبين متطلبات الحياة العامة جعل المهنية الصحفية تعود خطوات كثيرة للوراء.. لا يمكن لشخص عاقل أن يبقى جالسًا القرفصاء على متن سفينة تستعد للغرق في قاع المحيط.. سيتحرك بحثًا عن طرق وأطواق وأساليب النجاة.. صحفيون كثيرون مبدعون وملهمون ورائعون تحركوا وتركوا المهنة من أجل لقمة العيش.. ما عادت الصحافة بالنسبة لهم ملاذًا آمنًا.. تعاملوا معها على أنها تغرق كما يحدث تمامًا لسيارات الأجرة حول العالم بعد ظهور شركتي أوبر وكريم.. سحائب الخوف أفقدت الصحافة شيئًا من أسلحتها القوية، واضطرت الصحافة لتعويض الفراغ والمكان الخالي بأسماء أقل كفاءة وأقل قدرة وأقل موهبة ورؤية، واضطر أيضًا أصحاب القرار إلى الارتقاء بالاستعانة بقدرات تعوض النقص الحاد كمًّا فقط في زمن ما عاد للكيف متسع.. المغادرون المجبرون تسببوا في التراجع وكانوا أحد الأسباب التي أبحث عنها.. دخل الدخلاء وغاب الذين يمكنني أن أسميهم وأوصفهم بالمجانين.. كم كانت هذه المهنة بحاجة إلى الجنون حتى لا تصاب بالتعقل ويقذفها الموج الهادر إلى قاع المحيط في حادثة غرق المركب..!!