|


أحمد الحامد⁩
الوصية الأخيرة
2018-12-22
هناك مقالات يجب ألا تنشر لمرة واحدة، هناك مقالات يجب أن تكون ثابتة على الصفحة في كل عدد جديد، يعاد نشرها كل يوم؛ لأنها ليست فكرة، أو رأيًا، إنها أساس يجب أن يقيم الإنسان حياته عليه، اليوم أنقل لكم مقطعاً من مقال أحمد الفهيد، الوصية الأخيرة، عودوا لموقع العربية واقرؤوه كاملاً، هذه وصيتي لكم الآن، أحمد الفهيد:
الحياة قصيرة.. أعرف ذلك جيدًا، أعرفه ربما أكثر من الحياة نفسها، ربما لأنني أخوض حوارًا يوميًّا مع الموت، وقد يبلغ بِنَا الأمر في أوقات كثيرة، أن نسافر معًا، ونسكن في الغرفة نفسها، ونجلس متقابلين على طاولة الطعام، هو ينتظرني أن أصمت، وأنا أنتظره أن يتكلم.
ولهذا أكتب لك..
أكتب قبل أن أموت، لأقول: “إنني أحبك”.
رحل والدي من دون أن أقولها له، وإن لمرة واحدة..
ولن أرحل من دون أن أقولها لك، وإن لمرة واحدة..
ربما أذهب إلى غيابي الأبدي فجأة.. ربما يسكت قلبي، أو يغرق دمي في غيبوبة سُكَّرٍ، تبطئ الحركة في جسدي، حتى يتوقف عن العمل تمامًا..
الموت يحيط بي، يحاصرني، إنه يأتيني في الحلم، كنوبة سعال حادة مزعجة، لا يهزمها الدواء، ولا الدعاء. هذا الأسبوع زارني والدي ثلاث مرات.. آخرها كانت البارحة، كان مبتسمًا، وهادئًا، وكأنه نهارٌ للتو بدأ.
لا أعلم إن كان سيزورني مرة رابعة، أم أنا الذي سأزوره؟!.. في الحالتين، كل ما يهمني القيام به الآن، هو القول: “إنني أحبك”، يهمني أن تعرف أيضًا: أنك ما زلت بالنسبة لي “الصغير الذي كنت يومًا ما أبًا له”..
وأما بعد.. قل لأمي إنني أتقدم في العمر أسرع منها..
قل لها إنني أحبها.. وإنني كلما غادرت منزلها زائرًا، أنتحب في سيارتي كطفل، وأبلل ملابسي بالبكاء؛ لأنني غير قادر على طرد الصداع من رأسها، وتطهير ساقيها من الخمول، وجعلها تسمع الكلام بشكل أفصح، وترى الأشياء بشكل أوضح.
قل لها إنني كلما استيقظت صباحًا، أخاف من ضرب أرقام هاتفها.. أخاف ألَّا ترد.. يزهقني التفكير بأنه “لا يمكن الاتصال بها بعد الآن”.. إنني مرتعب جدًّا من احتمال غيابها الأبدي!
قل لها أيضًا، إنني سعيد جدًّا، فقد تعلمت في الأعوام الثلاثة الأخيرة أن أُقبّلها، وأحتضنها كأم وحبيبة وشقيقة، وطفلة. قل لشقيقاتي إنني أحبهن، وأخاف عليهن، وأذبل كلما تسلل الحزن إلى قلب إحداهن..
قل لهن: ربما أنني لم أكن أخًا جيدًا، لكنني كنت أحاول ذلك، كنت أرهق نفسي بالمحاولة تلو أختها.
قل لهن فقط: “إنني أحبهن”.. وأنا متأكد أن في استطاعتهن تخيّل قلبي وهو يفعل ذلك.
أما أشقائي، فقل لهم: إنني حي بهم.. لولا وجودهم في حياتي، لكنتُ في عداد الأموات.
قل لهم: إنهم كانوا الفوز الوحيد في كل خسارة مررت بها.
التوقيع:
الأخ الكبير.. الأب الصغير