|


أحمد الحامد⁩
مقهى
2019-05-19
في المقهى عدة طاولات، تشكل أعمار الجالسين عليها مراحل الحياة، هناك طاولة يجلس عليها مجموعة من الشباب أعمارهم في العشرينيات، وتلك طاولة بها ثلاثة رجال في الأربعينيات، أما الطاولة التي يلعب أصحابها الورق فقد جمعت أولئك الذين تخطوا الستين هادئين، وكأن بهم مللاً مما يفعلون أو مما يكررون فعله كل ليلة!
ـ طاولة العشرينيات صوتها مرتفع.. أحاديثها تقاطع بعضها.. ضحكات وتعليقات، كل مُصرٌ على رأيه بحماسة.. صدقني.. أقسم بالله.. بكيفك!، احتفال فوضوي صاخب يصاحبه ارتفاع دخان السجائر.. لا يتوقفون عن التدخين.. أغنية عبادي أبعد ما تكون عن أجوائهم.. ما زال يرددها منذ 28 عامًا.. عمري قضى سوّاح.. ودي أنا أرتاح! كيف اتفقت مع هذه الأغنية آنذاك.. أي عمر في ذلك الوقت الذي انقضى وأنا سوّاح؟.. لم تكن لدي الخبرة حتى للانتباه لكلمات الأغنية التي أستمع إليها.. كنت في العشرينيات!
ـ تلك الطاولة أكثر هدوءًا.. على وجوه أصحابها ابتسامات تخفي خلفها بعضًا من ندم، وبعضًا من حزن، أعرف تلك الابتسامات جيدًا.. مارستها كثيرًا، الحقيقة أن بها جزءًا من أمل أيضًا، الجالسون في منتصف الأربعينيات.. يرمق أحدهم طاولة شباب العشرينيات دائمًا، ود لو أنه ذهب إليهم وسحق بقدمه كل علب السجائر.. لا شك بأن تصرفه سيكون جنونيًّا.. قد يضربه أحدهم.. لن يفهموا أسباب تصرفه الحقيقية خصوصًا إذا ما رأوا بأنه يدخن أيضًا.. قد يعتذرون منه بعد عشرين عامًا.. قد يجدوه في تلك الطاولة التي يجلس عليها أولئك الذين في الستينيات!
ـ طاولة هادئة.. قد لا يتحدث أحدهم سوى بعض الكلمات إذا تطلب الأمر.. عمر الستينيات لا وقت فيه للتبرير.. هذا ما كان وهذا ما حصل، واحد منهم فقط ينظر كل عدة دقائق على الذي يقابله في طاولة الأربعينيات.. كأنه يريد أن يقول له شيئًا، لو تجرأ وذهب إليه.. ترى هل سيقول له لماذا تجلس هنا.. اذهب حتى تصحو مبكرًا وافعل ما أقوله لك.. افعل حتى لا يمضي العمر وتجلس على طاولتي وتشعر بما أشعر به الآن.. نحوك ونحو نفسي!
ـ صاحب المقهى ينظر إلى الجميع ببطء شديد، يكاد يكون تمثالاً في بعض الأحيان، تمثال كتب بجانبه على لوحة صغيرة بضع كلمات: يمضي عمر الإنسان وهو يتعلم ويكتسب التجارب، الشاب في العشرينيات يحتاج إلى هدوء الذي في الأربعينيات عندما يتخذ قراراته، والذي في الستينيات من عمره يتمنى لو يمتلك قوة وعزيمة الذي في الأربعينيات، أما الذي في الأربعينيات فيدفع تكاليف أخطائه في العشرينيات، ما بين التجارب التي تدفع سنين حياتك مقابلاً لها تتضح لك حقيقة عدة صُوَر، أين كنت؟ ومع مَن؟ صور توضح لك حقيقة تفكيرك في كل مرحلة تم التقاط الصورة بها.. صورة من ضمن الصور التي شكلت ألبوم حياتك إلى غاية الآن.