|


فهد عافت
أصل التفاوت
2019-08-26
بحثًا عن أول صراعٍ بشري وعراك، بعيدًا عن هابيل وقابيل، راج جان جاك روسو يجوب القرون بسرعة سهم مُنطِلِق، ذلك لأن الحوادث، على حد تعبيره: كلّما كانت بطيئةً في تعاقُبها وُصِفَتْ بسرعة!.
ـ بانطلاقة السهم السريعة هذه أنتج روسّو كتابه العجائبيّ "أصل التفاوتُ بين الناس". والذي أودّ اختصاره هنا لكنني سأفشل!. ذلك لأن اختصاره يتطلب تسريعًا لما هو منطلق أصلًا مثل سهم في سرعته!.
ـ ورغم يقيني بصحّة أنّ الفشل مع جان جاك روسّو خير من النجاح مع غيره!، إلا أنني لا أجد في ذلك عزاءً كافيًا!. سأكتفي بمحاولة وصف الكتاب بدلًا من محاولة اختصاره!.
ـ يكاد يكون كتاب جان جاك روسّو هذا، قصيدةً في مديح همجية الإنسان البدائي رغم أنه جاء للقفز بالحضارة الإنسانية الغربيّة خطوات شاسعة، القفزة التي تمكّن منها فيما بعد عبر كتابه "العقد الاجتماعي" الذي اعتبرته الثورة الفرنسية كتابها المقدّس رقم واحد!. كان كتاب "العقد الاجتماعي" مدخل الثورة الفرنسية، وكان كتاب "أصل التفاوت" مدخل كتاب "العقد.."!.
ـ بمعْول الفلسفة، حفر روسّو عميقًا في أرض التاريخ، عميقًا جدًا، حتى وصل إلى مياه بئر عجائب لم يخطر في بال فيلسوف قبله وجودها وصلاحيتها للشرب!، ومن ماء العجائب هذه تم سقاية أوروبا كلها، استسقت واغتسلت!.
ـ تمّت التعرية: المجتمع المدنيّ الحقيقي تكوّن أول ما تكوّن على يد أوّل إنسان قام بتسوير أرض وصاح: "هذه لي.. إنها لي"، ثمّ وجد من البسطاء من يُصدّقونه!. من هذه اللحظة لم يعد بإمكان البشر صيانة أنفسهم من الدمار المتقصّد وبؤس الحروب!.
ـ كان كتاب "أصل التفاوت" في شكل من أشكاله تحيّة متأخّرة جدًا، ورَدّ اعتبار، للقلّة التي تخيّل روسّو منظرهم وهم يخلعون الأوتاد، يصيحون بالناس: احذروا سماع هذا الدّجّال، الأرض ليست ملكًا لأحد، والثمرات للجميع، ليس إلا الهلاك ينتظركم إنْ نسيتم هذا!.
ـ ومتى صار الناس قساةً سفّاحين يا روسّو؟!، ـ يوم أُنشئ أول واجبات الأدب بين الهمج!. يوم بدأ الناس بتقدير بعضهم البعض مبادَلَةً!. لم تكد فكرة "الاعتبار" تتكوّن في نفوسهم، حتى زعم كلّ واحدٍ منهم أنّ له في ذلك حقًا!. من هناك صار كل تجاهل خطأ، وكل خطأ إهانة، وصار المُهان يرى في الشرّ الذي ينشأ من الإهانة ازدراءً لشخصه أشدّ إيلامًا من الشرّ نفسه!.
ـ هل لديك أقوال أُخرى؟!. ـ لديّ شاهد، الحكيم لُوك: لا يُمكن أنْ تُوجد إهانة حيث لا يُوجَد تَمَلُّك!.
ـ الحقيقة أنه ومتى ما رغبتَ في قراءة كتاب "أصل التفاوت بين الناس" ودخلتَ فيه، ستجد أنّ لدى جان جاك روسّو أقوالًا أُخرى أعجب وأعمق.. آراءً وأدلّةً وشهودًا ونظرةً جديدةً للحياة!.
ـ والكتاب عمومًا لا يدعو إلى الرجوع إلى الحياة الطبيعية الأولى وإنْ هام بها عشقًا، ذلك لأنه يرى استحالة إمكانية حدوث مثل هذا الرجوع، لذلك يتقدّم بحلول ومقترحات لحياة جديدة جديرة بالعيش أيضًا!.