|


صالح الخليف
إنها الصفحة الأخيرة..
2019-12-27
قبل ثماني سنوات تقريباً حضرت ندوة متخصصة في الصحافة احتضنتها العاصمة الأردنية عمان لمدة ثلاثة أيام.. أشياء كثيرة تستحق أن تروى وتنقل عن تلك الندوة..
مثلاً سمعت صحفية عربية تحدثت طويلاً عن معاناتها مع المهنة، ثم اختتمت خطبتها بالقول: “إن الصحافة في بلادها لا تمنح أي كاتبة مكاناً للكتابة في الصفحة الأخيرة.. كانت تريد القول إن الكتابة في الصفحة الأخيرة مهمة ومتميزة، وتخصص عادة لأهم وأبرز وأفضل الكتاب، وهي بحسب وجهة نظرها تستشعر المظلومية وراء هذا الإجراء.. بالطبع لم تكن المتحدثة أحلام مستغانمي ولا شهر زاد.. بالنسبة لي أعدها ممن ابتليت الصحافة والكتابة بها وبأشكالها.. لكنها الأقدار على أية حال..
ومستواها وقدراتها وآراؤها ليست بالطبع هي موضوعنا وقضيتنا وسالفتنا.. أبداً.. أيضاً الموضوع ليس الكتابة والملهمين في هذا المجال، وإنما الذي أريد الوصول إليه هو الصفحة الأخيرة.. وما فلسفتها وطبيعتها ومنهجها.. أظن لم يتفق القائمون والمسؤولون والقياديون في صحف العالم أجمع على شيء كما اتفقوا على هوية الصفحة الأخيرة.. اتفاق ليس مكتوباً وليس موثقاً وإنما هي توارد الرؤى الموحدة.. الصفحة الأخيرة جعلوها استراحة تقدم الخبر الطريف والحدث الغريب.. طابعها الظرافة الضاحكة والخفة الساخرة.. برأيهم أن القراء ينهمكون في مطالعة وقراءة الأخبار والتقارير والحوارات الجادة عبر كافة الصفحات، ثم لا بد أن تكون الصفحة الأخيرة بمثابة المتنفس الذي يعيد ترتيب الروح من الداخل.. كأنها إجازة سفر داخل فندق أندلسي مطل على المحيط الأطلسي في أواخر شهر أغسطس، بعد عام طويل وشاق من العمل الشائك تحتاجه الأنفس ترطب به جفاف التراب والغبار وعوامل التعرية.. مع كل تلك المواد اللطيفة في الصفحة الأخيرة لا بد أن تضع أبرز الكتاب وأمهرهم وأفضلهم وأثقلهم وزناً ولغة وأفكاراً وكلمات.. هذا ليس سراً وليس اكتشافاً وليس أمراً خاصاً ودقيقاً أقوله الآن، وإنما هي الحقيقة التي يراها ويعرفها ويحفظها كل المنتمين للصحافة أو حتى قراؤها عن ظهر قلب.. من يكتب في الصفحة الأخيرة هو الأفضل..
الكتاب مستواهم ليس واحدًا وليست شعبيتهم واحدة وليست قدراتهم واحدة.. هناك تفاوت في كل شيء.. لكن إذا أردت معرفة الكاتب الأول والأهم في أي صحيفة، فاتجه مباشرة إلى الصفحة الأخيرة واعرف الكاتب الأول ثم تجول بين المقالات كما يحلو لك.. هذا كما قلت ليس سراً..
إنها حلقة واحدة في مسلسل المهنة الصحفية المرهقة، ولذلك لعلني بعد مرور السنوات الثمانية سريعة وكأنها حلم ظهيرة في يوم شتوي بارد، أوجه رسالة من تحت الماء إلى تلك التي تساءلت باستغراب عن غياب الكاتبات في صحافة بلادها من الصفحة الأخيرة.. إنها مجرد رسالة أخيرة وإجابة أخيرة.. حول هوية الصفحة الأخيرة..!!