|


فهد عافت
أنيسة!
2020-02-26
-احتجت لأكثر من خمسين سنة حتى أقع في مثل هذا الحب!. ظننت أني تجاوزت سنّ التّعلّق بالأشياء حدّ الفتنة والهَوَس، لكنه الحب، لا يعرف عمرًا، ولا يعترف بخبرة، جنون في جنون!، وهو حين يأتي، يأتي عاصفًا، يقتلع ويبذر من جديد!. يجدّد علاقتك بالحياة والأشياء واللغة!. كم أحتاج اليوم تعلّم لغة جديدة لأحكي لكم قصّة غرامي العجيبة هذه!.
-كنت أعرف أن الإنسان قد يعتقد عقليًّا ما لا يقدر على تبنّيه عاطفيًّا، والعكس صحيح!. ولأوضّح، فإنّ كثيراً منّا، ربما جميعنا بشكل أو بآخر، تحدّث ودافع صادقًا عن مبادئ ومفاهيم معيّنة، دون القدرة على تبنّيها!. كثير منّا، مثلًا، آمن بالحرّية الشخصيّة، ونظّر حولها، ولم يكن كاذبًا، لكنه وبالرغم من ذلك، ظلّ عاجزًا عن تبنّيها وتطبيقها في حياته الخاصة ومع أسرته وخاصةً زوجته وبناته!. أو أن يكون أحدنا مؤمنًا بالمساواة ومع ذلك، فإنه يفكّر، ويتردد، حين يتعلّق الأمر بالزواج و”التزويج”!.
-على طريقة طه حسين: بَعُدتُ لأقترب!. لكن، ولأنني أقل حصافة ونباهة، أظن أنني بَعُدْتُ كثيرًا!.
-كنتُ أعرف عقليًّا، بأن النباتات كائنات حيّة، وكنت أظن أن معرفتي تلك وافية، وأن اعتقادي بها يشمل العاطفة ويعمّ الوجدان، إلى أن التقيت بـ”أنيسة”: شجرة المانجو في حديقة البيت الخارجيّة الصغيرة!.
-قريبًا من سور البيت، غُرِسَتْ عُودًا صغيرًا. ولم أكن الغارس. غرسها حارس البيت، الهندي الأنيق، والعامل الذي لا أظنه يتكرر، وقال لي: ستّة أشهر وستكبر وتخضرّ وتُثمر. ورحنا نراقبها معًا، كانت صغيرة جدًّا!. ولم يكن لها اسم!.
-مرّت سنة كاملة، و”أنيسة” تكبر ببطء، لم تنتشر أغصانها بالخضرة، ولم تثمر. لكننا تعوّدنا على رؤيتها، وفي الصباح صرتُ أحيّيها بهمس وتبسّم!. وكان الحارس قد اتّخذ قراره بالعودة إلى بلاده الهند. كان وداعه حارقًا عن جَدّ!. أهداني كتابين، عرفت فيما بعد أنه استعان بأحد أصدقائي للاقتراب من ذائقتي بنوعيّة الكتابين!. وأوصاني خيرًا بشجرتنا، ورحل كريمًا، أسعده الله!.
-مرّت سنة أُخرى، لتكبر شجرة المانجو، اخضرّت وتفرّعت في السنة الثانية بسرعة، وفي السنة الثالثة أثمرت، كان طعم ثمرها حلوًا بشكل لا تحتمله الأسواق!. ما إن تصفرّ الثمرة حتى تسقط على الأرض من تلقاء نفسها، وأحيانًا تنتظر لمسة بسيطة من يدي، بالكاد أمسح عليها فتنتقل بهدوء طفولي عجيب من غصنها وتحط في راحة يدي!. وصرت أجلس مرّتين ثم أكثر في صباحات الأسبوع الواحد تحت ظلّها، أشرب قهوتي وأحاول القراءة!.
-لم أقرأ كتابًا واحدًا، ولا حتى صفحة من كتاب تحت ظلالها!. أترك الكتاب وأقرأها هي!. ثم أقرأ الكون والحياة من خلالها!. أشعر بمتعة لا مثيل لها، وبسعادة وأمن ومحبّة وسلام قريبًا من جذعها وتحت ظلالها!. أحيانًا، أنهض من سريري بسبب اشتياقي لها!. صرت أراقبها في كل وقت، فجرًا، وصبحًا، وضحى، وظهرًا، وعصرًا، ومغربًا، وفي منتصف الليل، وفي الهزيع الأخير منه!. وهي في كل يوم تتجدّد والحمد لله!.
-أحاكيها، وأشعر حقًّا أنها تحاكيني، وأشعر أن علاقة خاصّة، من نوع فريد، نَمَتْ وترعرعت بيننا، علاقة حب نادرة، لا أحسبها إلا هديةً من هدايا الله ونعمة منه سبحانه.
-مع “أنيسة” عرفت أنني لم أكن أعرف الأشجار حقًّا، أو أن معرفتي بالنباتات لم تكن سوى معرفة منطق ومحبة عقل!. لم يحدث أن أحسست بتعب شجرة ولا سمعت ضحكة ورقة خضراء، ولا بخفقة غصن، إلا مع “أنيسة” وإلا بعد “أنيسة”!.
-فكّرت بزرع شجرة مانجو أُخرى، واستحيت من “أنيسة”!. إنها تغار!. أكاد أُقسم على ذلك!. ثم وفي لقاء رائع مع صديقي المدهش “عوض الحارثي”، توصّلت إلى حلّ لا أدري كيف غاب عني!. بنباهة وحب قال لي: خذ من ثمرها، وازرع من بناتها!. يا لها من فكرة رائعة!. وهذه المرّة سأزرعها، أزرع بنت “أنيسة” قريبًا من نافذة غرفتي!. وإكرامًا للفكرة، سأوزّع ثمرها على أصدقائي، يأكلون هنيئًا، ويزرعون من بناتها!.
-بعد رمضان، بلّغنا الله وإياكم إيّاه، تُثمر “أنيسة” من جديد بإذن الله، وبإذن الله سيكون ثمرها هذا العام أكثر بكثير من العام الماضي والذي قبله. ومن بناتها سأزرع وأُحب!.
-نسيت أن أذكر لكم سبب تسميتها بـ”أنيسة”. كان اسم زارعها، حارس البيت السابق، الهندي الرائع: “أنيس”!. سمّيتها على اسمه، ومثلما كان له من اسمه نصيب، صار لها من اسمها نصيب!. اللهم لك الحمد.. أنا عاشق!.