|


فهد عافت
برمش العين اليُسرى!
2020-04-22
- المكتبة ليست جمادًا، ولا يمكن لها أن تكون كذلك. المكتبة تشعر وتحسّ!، بل تنهض للمساعدة وقت الحاجة!. من الصعب إقناع من لم يجرّب صحبة الكتب بذلك. لكني جرّبتها وخبرتها، وأحكي لكم عن آخر “فزعاتها” لي:
- في ضيق العزل الذي نعيشه جميعًا هذه الفترة، قفز لي كتاب ولقيته بين يديّ فجأة. كان موجودًا في المكتبة منذ زمن، لكنه، فيما يبدو، أجّل مناداته لي انتقاءً لوقت يدري أنه آتٍ، وقد أتى!.
- رواية صغيرة لجون دومينيك بُوبي، بعنوان “ بذلة الغوص والفراشة: الرواية التي كُتِبَتْ برمش العين اليُسرى”!.
- كنت أظن ذلك إطراءً شعريًّا لها، وهو ما لا أرتاح إليه متى ما وجدته على أغلفة الكتب!. شيء ما يمنعني عن تلك الكتب التي أجد على أغلفتها عبارات برائحة التسويق!. قلبي يقول لي: الأريج ليس بحاجة ترويج!.
- لا أدري لماذا شعرت بمناداة هذه الرواية الصغيرة لي في هذا الوقت بالذات. تمّت تلبية النداء، ورحت أقرأ. لقيتني أمام شخصية تقرر مجابهة واقعها وعزلتها وضعف حيلتها، بإصرار لا يمكنه إلا أن يكون مُحفّزًا، ومستفزًّا للطّاقة!. وبإرادة لا يمكنها إلا أن تُخجل كل مَلَول متأفِّف!.
- لم تكن جملة “الرواية التي كُتِبَتْ برمش العين اليُسرى” مديحًا بنكهة الشعر للعمل. كانت جزءًا لا يتجزّأ من العنوان!. بطل الرواية، المؤلّف نفسه، شاب مشلول كليًّا، من رأسه إلى أخمص قدميه. الاسم الطّبّي لحالته “ متلازمة المنحبس”، واختصارها “م.م”!. حالة يكون فيها المريض، واعيًا لكل ما يحدث ويدور حوله، مع شلل تام لكل عضلة في جسمه، عدا عضلات العينين!.
- ليتحدّث معنا، ليحكي حكايته، نجح بعد مشقّة، وبمساعدة صادقة من محبّيه، في الوصول إلى طريقة عجيبة: تُعرض أمام عينه الحروف، وعند الحرف المناسب يُغمض عينه!. كل كلمة تحتاج إلى أربع أو خمس غمضات!. لكنها كانت الطريقة الوحيدة الممكنة للتعبير، وهذا ما كان!.
- الرغبة في الحياة، في التواصل مع الآخرين، قادته إلى صناعة هذه الشيفرة الخاصة للتعبير، على ما بها من خدوش وما لها من إشكاليات ومصاعب: “لم يكونوا متساوين كلّهم أمام الشيفرة “وهو الاسم الذي نطلقه على طريقة ترجمة أفكاري”، عاشقو الكلمات المتقاطعة و”السكرابل” لهم الأفضليّة، والبنات أشطر من الأولاد”!.
- قالت لي المكتبة، التي رمت لي بأوراق هذه الرواية العذبة المُعذّبة: ما الذي كان ينقص “جون دومينيك بُوبي”؟! وأجابت: كل شيء!، كل شيء “تقريبًا”!. لولا أنه وعبر الإرادة، الإرادة، الإرادة، تمسّك بهذه الكلمة الأخيرة المقوّسة: “تقريبًا”!.
- فتحت هذه الـ”تقريبًا” عجائب!. إذن، بقي له أشياء: أنف ورئة للتنفّس، وبلعوم لتلقّي الغذاء، ورمش العين اليُسرى لكتابة رواية، يقرؤها شخص مثلي، يشتكي ملل البقاء في البيت ورتابة حياة العزل، فيخجل ويستحي من ربّه الكريم، ثم من نفسه، ويعيد ترتيب أوضاعه، يُعدّد ما بقي له، فيقول: الحمد لله، بقي لي كل شيء، بقي لي ما لا يُحصى من النِّعَم، فتتبدّد الوحشة، وتقفز الرتابة ساحبة ذيل مللها من الشّبّاك!. أسمع وقع ارتطامها بالقاع، وأضحك!.