|


أحمد الحامد⁩
من ذكريات الديوانية
2020-04-26
كثيرًا ما ظلمت ذاكرتي واتهمتها بالإهمال وفقدان الكثير من اللحظات والمواقف، وكثيرًا ما اعتذرت لها كلما اكتشفت تسرعي في الحكم عليها عندما تحضر لي شيئًا من الماضي البعيد وتقدمه لي وكأنها التقطته بالأمس، لكنها ومنذ أيام على غير عادتها تصر على جلب الذكريات من موقع واحد كنت قد قضيت فيه مئات بل آلاف الساعات وهو “ديوانية” والدي.
والديوانية تسمى أيضًا “مجلس” وتسمى أيضاً بأسماء أخرى حسب المناطق، في ذلك المكان الذي كانت مهمتى وبعض أخوتي هو صب القهوة والشاي عادة لرواد الديوانية، سجلت ذاكرتي العديد من المشاهد والكثير من صور الوجوه، اليوم عندما أستذكر ذاك المكان أكتشف بأنه جمع أصنافًا مختلفة من العقول والأمزجة، وأدركت تلك القدرة العجيبة التي كان يمتلكها والدي في تحمل رواد ديوانيته بشكل يومي مع الإبقاء على ذلك الود الذي كان يجمعه معهم طوال تلك السنين، لم يكن مستغربًا في تلك الديوانية إذا ما وجدت المهندس يجلس بجانب رجل يعيش في بيت “شعر”، ولا الثري بجانب رجل لا يملك أجرة عودته إلى بيته، ورغم أن الأدب والاحترام والانضباط كانوا صفات تلك الديوانية إلا أنها لم تخلُ من تلك المواقف التي كنت أهرب منها إلى خارج الديوانية كي أستطيع أن أضحك حتى تبتل عيناي من الدموع ثم العودة وكأن شيئًا لم يكن، كان من رواد تلك الديوانية تاجر أغنام، محبًا للشعر، وكان أعجوبة في الحفظ، وأجزم أن ذلك الرجل لو أنه التحق بالتعليم في طفولته لوصل إلى درجة علمية مرموقة لأنه كان يمتلك قدرة على الحفظ بشكل لا يصدق، لكنه ولد في مكان وزمان أبعداه عن مقاعد الدراسة فلم يحصل منها سوى على القراءة والكتابة، مشكلة ذلك الرجل أنه كثير الكلام، وكثيراً ما كان يلقي القصائد الطويلة التي يحفظها للدرجة التي لم يكن يعطي الفرصة لغيره في الحديث، ووالدي بطبيعته كان مجاملًا كثير التحمل، في تلك الأمسية قال صاحبنا: “الحافظ” قصة تراثية ثم ختمها بقصيدة طويلة جدًا جدًا بعثت على الملل، أكاد أجزم بأنها تجاوزت الثلاثين بيتًا من الشعر الممل، كنت أرى الامتعاض على وجه والدي، والتذمر على وجوه الحاضرين، بعد أن أنهى صاحبنا قصيدته، نظر نحو والدي وهو مزهو قائلًا: تراني حافظ ألف قصيدة.. رد والدي بسرعة: والله لو إنك حافظ القرآن أحسن لك!، ضج المكان بالضحك، وضحك صاحبنا الحافظ حتى دمعت عيناه.