|


فهد عافت
الهزليّ المبثوث بعناية!
2020-07-19
“كنت آخذ كل شيء على محمل الجَدّ وكأنّني كنت خالدًا”!. استوقفتني هذه الجملة لـ”سارتر” على لسان “إيبييتا” بطل قصّته القصيرة “الجدار”. لم أقدر على إتمام القصّة إلا بعد ما يقارب الساعة. في هذه الساعة تشكّلت، وارتسمت، وجوه كثيرة مرّتْ عليّ في هذه الحياة، وجوه جميع من أخذوا الحياة بجديّة أكثر من اللازم، وعلى الدّوام!.
ـ أقول “جميع”، ولا أقدر على عدّهم، بل ولا على تذكّر كثير منهم، لكني على شبه يقين من أنّ “جميع” من هم على هذه الصّفة الحادّة من الجديّة، حضروا حفل التذكّر!. ذلك لأنّ بعضًا من ارتسمت وجوههم في ذاكرتي، عُجِنوا وتخالطوا، فكنت أرى في وجه واحد.. خمسة أشخاص أو أكثر، دون قدرة على تخليصهم من هذا الخلط ومعرفتهم واحدًا واحدًا!.
ـ دون جدوى، حاولتُ تحاشي بعض من أُكِنّ لهم تقديرًا خاصًّا!. “سارتر” كشف الملعوب بسطر واحد!. وللمرّة الأولى، أنتبه مرعوبًا، من حقيقة أنهم جميعًا، كانوا يتصرّفون وكأنّ الحياة دائمة لهم وأنهم خالدون فيها!.
ـ المفارقة التي لم أجد لها توفيقًا، هي الكيفيّة التي صرت أراهم عليها!. وأتساءل دون إجابة خالية من تغبيش وتشويش، كيف ظهروا لي على هذه الهيئة متغطرسة اليَبَاس؟!. أقول اليباس وأقصد الكلمة بمعناها الحرفي: شفاه متشققة من الظمأ، ونظرات جافّة!.
ـ في الأمر تناقض عجزت عن فكّه وإعادة تركيبه. ما دام كل واحد منهم يظنّ نفسه خالدًا، فلماذا هذه الجديّة إذن؟!. إذا كان الأمر على هذا النحو فلماذا لا يبدو على هذه الوجوه الانشراح؟! ألم يكن الأولى بمن يظن نفسه خالدًا، أن يسرح ويمرح ويلعب ويضحك، بل وأن يكون أقرب إلى الهزل منه إلى الوقار؟!.
ـ الأكيد، أنّ أخذ الأمور، كثير من الأمور، بجديّة، واجب، ليس فيه من السوء شيء. لكن الحياة بصراحة ليست مجموعة من “الأمور” وانتهينا!.
ـ ثمّ أنه وفي كل أمر فسحة!. ثمّ أنه وفي حقيقة أن هذه الحياة فانية، وأن كل أمر زائل، ما يشير بإغراء كبير للتخلّي عن هذه الجديّة الصّارمة، والتمتّع بلحظات مرحة، وقفشات باسمة، وتأمّلات خالية من المنفعة ومن أي غاية!.
ـ لا أرى في الجديّة الفائضة عن الحدّ، والتي يشمل بها صاحبها كل حركة وسكون، وعلى طول الخط، إلا غباءً، أو خليطًا من الغباء والغطرسة!.
ـ خذ بنصيحتي، وابتعد، وابتعد هنا بمعنى “حط رِجْلك”!، ابتعد عن أي شخص جادّ إلى الحدّ الذي يلزمك كل مرّة وقبل أن تقول له طُرفة، تقديم تمهيد وتأكيد على أنها طُرْفَة!.
ـ في هذه الحياة شيء هزلي، مبثوث بعناية فائقة. بمعنى أنه هزلي نعم لكن وجوده ليس عبثيًّا أبدًا!. لا فن ولا أدب ولا تأمّل جمالي من أي نوع، وربما لا عِلم أيضًا، دون دِرْبَة على مراوغات وحِيَل هذا الهزليّ الساخر، وكسب مهارة في اقتناصه، ومعرفة كيفيّة التعامل معه بتطويعه أو بطاعته!.
ـ وبعيدًا، حتى عن الفنون والآداب والعلوم، تظل لهذا المبثوث الهزليّ في الحياة مهمّة، من الغباء مجافاتها. هو حتى حين لا يساعدنا على فهم أو تحمّل الفجائع، فإنه يساعدنا على نسيانها!.
ـ المشكلة أنني أتحدث معكم حول هذا الموضوع بجدّيّة!.