|


فهد عافت
بوح الغريب!
2020-10-20
- حدث معي هذا كثيرًا: يصافحني شخص لا أعرفه، فأدعوه لفنجان قهوة، يجلس وقد لا يطلب قهوة ولا أي شيء آخر، وحتى إن طلب، أعرف من نظراته أنه إنما جلس ليتحدّث!.
- بالخبرة صرت أعرف من يريد أن يتحدّث عن الشعر أو الأدب حقًّا، ومن يبدأ حديثه في هذه المجالات ليُمهّد، فقط، لحديث آخر يخصّه، لبوح شخصي!.
- مع الأخذ بالاعتبار أن عددًا كبيرًا ممّن أحدّثكم عنهم، لا يعرفونني أصلًا، وكل ما في الأمر أنهم وجدوا شخصًا بمفرده على طاولة في مقهى وبين يديه كتاب!.
الناس، فيما يبدو، يثقون بشكل أو بآخر، وبطريقة أو بأخرى، بإنسان يقرأ كتابًا، ويجلس وحيدًا في مقهى!.
- وتمر دقائق، بالكاد تكفي لتعارف وهمي بسيط، بعدها يبدأ هذا الصديق العابر، بسرد حكاية ما تؤرّقه وتشغل باله، أو تثير شجونه!.
الغريب يأتي الآن: يكشف أسراره، يبوح ببعضها، لسبب مجهول تصعب معرفة أسبابه حتى بالنسبة إليه!.
- أثق أن مثل هذه الصداقات الخاطفة معلومة النهاية بعد ساعة بالكثير، قد مرّ بكم أكثر من صاحبٍ لها!. لولا هذه الثقة ما حدّثتكم في الموضوع!. ويا خيبة ظنّي في الحصول على قارئ لهذه الكتابة ما لم تكن ثقتي في محلّها!.
- يمكن لصديق الطاولة هذا أن يذكر لك الأسماء في حكايته، ومنهم من يظن أن ذلك كافٍ لتعرفهم وتشعر تجاههم بما يشعر!. يمضي الوقت ويشعر مُحدّثك براحة من رمى عن كاهله حِمْلًا!.
- في منتصف الطريق، أصابني غرور ما، أو بالأصح ثقة زائدة بالنفس، زائدة وغير صحيحة، فقد توهّمتُ لأكثر من مرّة أن لشكلي وهيئتي قدرة ما على الجذب والبوح بطمأنينة!.
عمومًا، لم أتخلّص بعد تمامًا من مثل هذا الظن!، لكنني حين بدأت أفكّر جديًّا في الأمر، توصّلت إلى نتيجة تثير الشفقة!.
- في الغالب، وهذا هو الأقرب إلى المنطق بالنسبة لي، فإن عددًا كبيرًا من الناس، يعيشون بلا أصدقاء مقرّبين حقًّا!. يخشون البوح للمقرّبين منهم بأسرارهم حتى لا تُحسب عليهم أو تُستغلّ ضدّهم من قِبَل معارفهم!.
- لكنهم مشحونون بحكايات صغيرة وبأسرار طفوليّة ومشاعر عفويّة، يريدون قولها، وربما يشعرون، في وعيهم أو في لاوعيهم، أن حكايتها لأحد ما، جزء من حلّ أو على الأقل ترتيب فوضى خيوطها المتشابكة!.
- دليل ذلك، أنّ أكثر جملة مرّت، ويمكنها أن تمرّ، على مسمعي منهم: “تخيّل.. فلان.. صديق عمري.. لم يقف معي”!. “تصوّر.. فلان.. أقرب الناس لي.. لم يفهمني”!.
- يدرون أنك صديق عابر، مُتَوَهّم، وافتراضي!. وهذا بالضبط ما يبحثون عنه!. يدرون أنك لن تتذكّرهم، وأنّ خفاياهم لن ترتدّ مُستغِلّةً إياهم باتّهام أو تهديد أو حكم سلبي يحوم حولهم كلّما اجتمعتم!.
- الحياة مُوحشة بلا أصدقاء مقرّبين حقًّا، ورائعين حقًّا، ومصدر ثقة وأمان وتفهّم حقًّا!. مُوحشة لدرجة أنها تُلجئك لأي غريب عابر، في لحظة ما، لتقول له أي شيء وكل شيء!. لابدّ من حبيب واحد وصديقين على الأقل!.
- الثقة بالغريب البعيد العابر، ليست ثقة إلا في ظاهرها فقط، أمّا في باطنها فهي، إنْ لم يخب ظني، ارتباك من الدنيا وشكوك في الأصحاب المُقرّبين!.