|


فهد عافت
النّمْر الوَرْدِي!
2021-02-09
ـ هذا رأيي، قلته سابقًا، وأُعيده مِرَارًا: الذي لا يجد الشعر في غير الموزون المُقفّى، لا يجده حتى في الموزون المقفّى، لكنه يتوهّم ذلك لا أكثر ولا أقلّ!.
ـ الشعر موجود، وحاضر، في كل عمل فنّي وأدبي عظيم. تلقاه في الرواية وفي المسرحيّة وفي المشهد السينمائي، تلقاه في الرسم والنّحت والموسيقى والرقص والفلسفة!، تلقاه في كل عمل يدويّ من صناعة الفخار إلى تطريز الثّياب!. تلقاه في الطبيعة!.
ـ أظنني قرأتُ كل ترجمات علي مصباح لـ”نيتشة” ولم أجد في “نيتشة” إلا شاعرًا!. وكل ما كتبه “غاليانو” كان بالنسبة لي شعرًا، ولا يمكن لي تصوّر أحد قرأ روايةً لـ”أفونسو كروش”، صاحب “هيّا نشتر شاعرًا”، ثم لم يتبلّل بمطرٍ غزيرٍ من الشعر!.
ـ الأمر ينطبق على كتابات الدكتورة خيريّة السّقّاف، وعلى تغريدات صاحب الحزام أحمد أبودهمان، وما “الحزام” إلا أُغنية!. وكل صورة فوتوغرافيّة لصالح العزّاز، رحمه الله، كانت فوّاحة بوّاحة بالشعر!. ولا أظن أنه يخفى على أحد، ما أضفته وأضافته، كاميرا المصوّر بندر الجلعود على مَهابَة الحُكْم ووقار الحاكم ومكانة المناسبات من شاعريّة عذبة!.
ـ كما لا أظن أنّ هناك مدخَلًا للاستمتاع بأفلام يوسف شاهين أفضل من التعامل معه كشاعر!.
لقد كانت “الأبواب”، وما تزال، من أقرب قصائدي إليّ، اختتمتها بهذا المقطع:
“زمنّا وانْ قسا بِيْلِينْ..
وطنّا وانْ قصى داني
تَعوّدنا نِزِفّ الطّين..
عروس، وصدرنا حاني
ونِدْخَلْ في الكلام اثنين..
وننسى أيّنا الثّاني”!.
البيت الأخير مأخوذ حرفيًّا من صورة سينمائية أنهى بها يوسف شاهين فيلمه “حدّوتة مصريّة”!.
ـ وأتذكّر: كان مساعد الرشيدي، رحمه الله، يشاهد في التلفزيون فيلمًا أجنبيًّا، وأمام مشهد امرأة وبحر، ترك الفيلم وراح يكتب:
“تشبهين البحر!، قالت: أشبه البحر وتخافه؟!..
قلت: يتشرّد سنا نجمه، ولا تُظما مرايا!
تُقربين لْمَاهْ؟! قالت: بيننا فرق ومسافه..
قلت: كم يبعد سواد الرّمش عن سُود المنايا؟!”.
ـ ما زلتُ أتذكّر مشهدًا من رسوم متحرّكة، أدخلني عوالم الشعر بما لم تقدر عليه كتب وقصائد بالهَبَل!. كان “النمر الوردي” متجهًا لقطع شجرة. ما إنْ قطعها حتى ظلّت الشجرة واقفةً بينما سقطت الكرة الأرضية!.
الشعر هو النّمر الوردي الحاضر، وإنْ تخفّى، بكامل شراسته، وطرافة لونه الممُحيِّر، وفكاهة معانيه، الحاضر بدلاله ودلالاته، في كل جميل!.
ـ لكننا حين نقول قصيدة، فإننا لا نقول إلّا، “أعني لا أفهم الأمر إلا على هذا النحو”: منزل الشعر!.
ـ يمرّ الشعر على كل الفنون والآداب ضيفًا، صديقًا، أخًا، قريبًا، فيمتثل بأدبه الجمّ ولطفه الكريم لمُقتضى الحال. لا يفرض على أهل البيت تهيئةً لمكان جلوسٍ غير الذي قاموا بتهيئته أصلًا!. لا يُحدّد لهم نوع الحديث وطبيعة الكلام وشكل المائدة!. ضيف كريم، خفيف النّفْس، يُعطّر الزيارة بنكهته الحلوة، يُمرّرها بين الكلام المُرسل على هوى أصحاب البيت!، لكنه ما إنْ يعود إلى منزله، منفردًا، أو مع عائلته، أو مُستقبلًا ضيوفه، فإنه يتصرّف على طبيعته، هنا تكون الأوزان والقوافي حاضرةً، نَضِرَةً، لا يُستغنى عنها!.
ـ قد لا يكون الشعر بحاجةٍ إلى وزن وقافية، لكن الشاعر، الذي يريد كتابة “قصائد”، لا بدّ له من معرفة التفعيلات والبحور والموسيقى والقوافي، وإلا فإنه ليس بشاعر!. ولا أظن، أنّ كلمة “معرفة” تكفي!. الشاعر الذي يريد بناء بيته من حجر وشجر وقمر ومطر القصيدة، لا يكفيه أن “يعرف”، بل يتنفّس الموسيقى، وأن يكون الإيقاع نبض قلبه، لا يتعلّمه. لا أحد يتعلّم التّنفس والخفق!.