|


فهد عافت
«الذّيب عند طاريه»!
2022-02-12
- أحيانًا، يُمكنك النّظر إلى ورقة بيضاء، بيضاء تمامًا، خالية من أي حرف أو نقطة، وبالرغم من ذلك، تقرأ نصًّا ما!، (تتذكّر شيئًا، أو تسبح في خيالات وتهويمات) نَصًّا لم يُكتب على الورقة شيئ منه، ولكنك تقرأه لأنّه كان مكتوبًا داخلك، أو مُستَنْفَرٌ للكتابة وتنتظر لحظة من لحظات السّقوط سهوًا، وما حدث هو أنّك بنظرك إلى الورقة “الصّفحة” البيضاء تمامًا، أتحت لنفسك، بدرايةٍ منك أو عن غير درايةٍ، السّقوط، أو العُلُوّ، سهوًا، ورحتَ تقرأ ما هو مكتوبٌ، أو ما كان آيلٌ للكتابة، منكَ فيك!.
- ليست الصفحة البيضاء، الخالية تمامًا من أي نقطة أو خطّ، وحدها من تُسقطنا فينا لنصعد!. أشياء كثيرة تفعل ذلك وبالقدر نفسه من الكثافة والحيويّة. تأمُّل منظر طبيعي، أو لوحة فنّيّة، مقطع من أغنية، أو موسيقى خالصة، حوار بالقرب منك أو في رواية أو في مشهد سينمائي، مجرّد الصّمت والسّكون حولك، أو حتى البَحْلَقة في السّقف. أشياء كثيرة تسحبنا داخلنا لتُخرِج فينا، فجأة، مخبوء ما، ومكنونات ياما!.
- وهو ما يعني، وهذه حقيقة يُمكن إقرارها بمجرّد التفكير في أمرها: استحالة الدخول إلى عمل فنّي أو أدبي (أو أي شيء آخر) بخلوّ ذهن خالص، وبحياديّة مُطْلَقَة وتامّة!. هذا فيما لو استثنينا بكاءنا عند الولادة وأيام قليلة أُخَر تليه، والاستثناء غير مؤكّد ومشكوك فيه أيضًا!.
- وإنّما بدأتُ بذِكْر الورقة، وركّزتُ على الصفحة الفارغة، لأنني أريد التّحدّث عن طبيعة القراءة، قراءة الكُتُب، والأمر يشمل تلقّي كلّ فنٍّ من الفنون بكافّة أشكالها.
- نحن مهما حاولنا اللّعب مع النّصّ على أرضه، وارتضينا بقوانينه، وسلّمنا له بالأمر والقيادة، فإنه من غير الممكن عدم تدخّل ذواتنا فيه، تعريفًا وتصريفًا وتجريفًا وتحريفًا!. لا يُمكن لنا فهمه ولا الإحساس به، ولا يمكن له التّأثير فينا، دون مزج، يُنصِف أو يجور، مع ذواتنا!. لا يُمكننا اللّحاق به والانضمام إليه إلّا من خلال المُسبَق الذي فينا من أفكار ومعتقدات وشكوك وأطماع ورغبات كوّنتها تجارب عقلية وعاطفيّة عشناها قبل النّصّ، وهي تعمل لا إراديًّا، في تشكيل ما نقرأ وتُسهم في تحديد وتجديد مساره وحواره، وفي تجديد مسارنا وحوارنا مع أنفسنا!.
- لا دَلَالَة بلا تأويل، ولا إيجاد بلا وجْد، ولا إحالة إلّا إلى حالة!. ولا تأويل ولا وجد ولا حالة بلا مرجعيَة،..
وعليه: فلا دلالة ولا إيجاد ولا إحالة بلا أَوْبَة!. كل “ذِهابٍ” في تلقّي الفنّ يحمل داخله “إيابًا” في تلقّينا لأنفسنا!.
الخيال نفسه ليس إلا إعادة فكّ وتركيب لواقعنا.
- وإنّما وسيلة الفنّ: الغواية، ومهمّة الفنّ: الحرث!. بينما وسيلة القارئ “المتلقّي”: التواطؤ، ومهمّته: النّهش!. وأُرجِع الفضل في استعمال كلمة “النّهش” هنا إلى “إمبرتو إيكو”. استوحيتها منه، مثلما استوحى هو عنوان كتابه “القارئ في الحكاية” من لحظةٍ كان يتأمّل فيها صيغة يبدو أنها منتشرة عندهم وعندنا للتعبير عن دخول أحد ما كان الحديث يدور عنه، وهي قولنا: “الذّيب في القليب” أو “الذّيب عند طاريه”!.
- “قفلة”:
بالنسبة لي: الموسيقى بشكل أسبر غَوْرًا، والرّواية بترصّدٍ أوضح هدفًا، من أكثر الفنّون التي تعمل على كشف السّرّي فينا! كشفه لنا!. لديهما (وهو أمر في كل الفنّون وإلّا ما كانت..) قدرة هائلة على الإفشاء. إفشاء أسرارنا لنا!. ومن الإفشاء يبدأ الاستشفاء!.