|


الألوان.. الهلال بحر حافظ والنصر حزن قباني وطلال

الرياض - صالح الخليف 2022.06.13 | 10:15 pm

"أحبك يا نصر والله أحبك.. في وسط القلب يا الأصفر أحطك.." بذاك الصوت المتغلف باللدغة الرائية صدح الراحل طلال مداح تغزلًا بالنصر في واحدة من أهم الأعمال الغنائية الملتصقة بتاريخ الأندية والرياضة..
بالطبع ما كان طلال مداح نصراويًا لكن والحق يقال أن فيه أشياء كثيرة تشبه النصر.. نعم طلال مداح يشبه النصر ولو تقصينا في هذا الاتجاه لربما غرقنا في تفاصيل ومنحنيات وطرائق متعرجة..
وفي مذاكراته التاريخية عن عائلته وحياته ودراسته وغزواته ومغامراته، كتب نزار قباني: "الأصفر لون عميق وهادئ ومتحضّر.. ومن هذا الزواج بين اللون الأصفر وبين نفسي، ولد طفل جميل اسمه الحزن".
ونزار أيضًا يشبه النصر.. لو اجتمع نزار وطلال والنصر في جلسة واحدة ربما قال القائلون العابرون: سبحانه يخلق من الشبه أربعين..!!
نزار وطلال جئنا بهما كبيّنة وإثبات وحجة وبرهان.. دليل شارد بين صفحات الزمن علّه لا يكون مثل قميص يوسف الذي تلطخ بدم كذب، بعدما ألقاه إخوته في غياهب الجب حتى يلتقطه بعض السيارة.. وكانوا فاعلين..!!
الحزن المتشبث بتقاسيم طلال مداح كان متسقًا تمامًا مع هزائم النصر الموجعة.. حالة العشق التي لا يمكن تفسيرها بسهولة بين طلال ومحبيه تتوازى ربما لحد التطابق مع النصر وجمهوره.. الطلاليون والنصراويون استقوا حالات المحبة من ينبوع واحد ومن نهر واحد ومن آنية واحدة.. تلك الحالة النضالية التي تتلبس المناصرين للنصر في انتصاراته وانكساراته هي صورة حيّة ومستنسخة من عشرات القصائد التي كتبها الشاعر العروبي الكبير نزار قباني منذ أواخر الأربعينيات في عاصمة الياسمين دمشق، وحتى إغماضته الأخيرة وسط عاصمة الضباب لندن منتصف العام 1998..
كان نزار شاعرًا وأديبًا يستعصي على الباحثين والدارسين والنقّاد تفهّم مآلاته ورؤيته للتعاطي مع الحياة وطرائق البقاء متوائمًا مع دروبها الشائكة.. إنه وصف يمكن استخدامه بنفس الكلمات ونفس العبارات مع النصر.. القصائد النزارية المتوحشة تصلح أن تكون الصدى المجلجل لكل صوت كتبت عليه الأقدار أن يكون نصراويًا حينما يبدأ الاستمتاع بالدفاع عن النصر تاركًا الريح والفضاء المفتوح تترادف مع قراءته ودلائله وأقواله..
غنّى طلال "في وسط القلب يا الأصفر أحطك".. وكتب نزار: "الأصفر لون عميق وهادئ ومتحضر".. كون طلال ونزار يشبهان النصر فذاك شيء يحتاج إلى برهان دامغ.. وهل هناك أكثر وضوحًا من لون الشمس.. الأصفر البراق.. كلاهما طلال ونزار تغزلا بالأصفر.. كان طلال يغني للنصر من كلمات رئيسه التاريخي عبد الرحمن بن سعود.. وكتب نزار عن الأصفر وكأنه يقصد النصر.. واللبيب بالإشارة يفهم..!!
على مسافة تبعد قرابة 11 دقيقة بسرعة لا تتجاوز الـ 80 كلم في الساعة يمكن الوصول إلى الضفة الأخرى في حي العريجاء القابع جنوب الرياض.. حي زاهر بذاكرة الحياة المتقدمة.. حي جمع النصر والهلال.. وهذا وحده يكفي هذا الحي العتيق ليمنح جائزة الأوسكار وجائزة نوبل للسلام.. إنها الجغرافيا حينما تفرض نفسها بلقاء أضداد كانت تجمعهم مشاعر متناقضة إلا في السكنى على الأرض.. تصالح منقوص كما هي حكايات البحار والشواطئ المتوارية وراء آفاق الغروب البعيدة.. إنه الهلال شبيه البحر.. ذاك المتشبع بالاعتزاز والتمايز والمفاخرة بين أنصاره وكارهيه.. الهلال كالبحر تمامًا.. لم يأخذ الهلال من البحار طبائعها وعنفوانها وتماسكها فحسب.. أخذ منها أهم ما لديها.. أخذ من البحر زرقته.. وهل في البحار شيء أغلى وأحلى من ألوانها التي طغت على خارطة الكرة الأرضية بأسرها.. في كبد السماء متكئًا على نافذة داخل طائرة تعبر المحيط الأطلسي تسابق الرياح وتشق السماء باتجاه قارة تغفو وراء محيط آخر لا تقع عيناك سوى على امتداد أزرق طويل وشاسع يحتل كل أجزاء الكون.. ذاك هو الهلال الأزرق..
هل النصر فعلًا هو الأصفر.. أليس هناك أصفر غيره.. هل الهلال وحده البحر.. هل الهلال وحده الذي يليق به الأزرق.. عندما قال حافظ إبراهيم: "أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ.. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي"..
لو عاش حافظ إبراهيم إلى يومنا هذا لقال إنه لم يكن يدافع عن اللغة العربية في قصيدته الخالدة، وإنما كتبها عن الهلال.. سيغير فيها ويقول: "أنا البحر في أحشائه المجد كامنٌ.. فهل سألوا الغواص عن بطولاتي"..!!
الألقاب يمنحها الإعلام وترددها الجماهير.. الإعلام هو المتصرف والمتحكم بتوزيع تركة الألقاب وتفرعاتها.. مجلة عالم الرياضة مثلًا التي قادها الصحافي الاتحادي الشهير عادل عصام الدين كانت تتسلح كل أسبوع بصناعة الألقاب.. كانت توزعها كما تتوزع حلوى العيد داخل الحارات المنسية.. ألقاب ذكية وألقاب احتفالية وألقاب مدائحية وألقاب مرحلية وألقاب ما أنزل الله بها من سلطان..
إلصاق النصر باللون الأصفر لم يكن لقبًا تغزليًا أو مدائحيًا.. لا طلال ولا نزار لهما علاقة مباشرة بربط النصر دومًا باللون الأصفر.. حينما تقول لأي مشجع سعودي من هو الأصفر سيقول لك النصر.. إذا قلت أصفر بريدة فأنت تقصد التعاون.. إذا قلت أصفر جدة فأنت بالتأكيد تعني الاتحاد.. حينما تقول الأصفر أنت تقصد النصر وحده لا شريك له.. رفعت الأقلام وجفت الكلمات.. هذه حقيقة فرضتها طبيعة الأشياء وواقعية الأحداث.. كان عبد الرحمن بن سعود يعشق كثيرًا الطقم الأصفر الكامل في هندام فريقه ولباسه.. لم يكن يتفاءل أبدًا بالتنويع بين الأزرق والأصفر شعار ناديه.. كان دائمًا يصر على وجودية الأصفر الكامل.. يرضخ في أحيان قليلة لأصوات التسويق وفلسفات التجديد.. في بداية قيادته للنصر اصطدم فيصل بن تركي مع الاتحاديين.. أعلن التحدي والمناكفة والحروب المفتوحة أمامهم.. بعد إحدى المباريات الشرسة بين النصر والاتحاد في الملز استغرب أحد المذيعين من الضدية الحادة في كلام فيصل بن تركي تجاه الاتحاد، فقال له: "الاتحاد أصفر" فرد فيصل: "ما فيه إلا أصفر واحد هو النصر"..!!
بالطبع لا يعيب الاتحاد ألا يكون أصفر.. ربما تكون واحدة من شرر النيران الخامدة تحت الرماد.. قد يأتي لها نافخ كير فيوقدها وإلا فإنها كالشمس المشرقة في رابعة نهارات الصيف الطويلة.. لعبة الألوان تحمل التصنيف وتحتمل اللقبية.. هذا هو الأهلي مثلًا لا يمكن إطلاق لقب أو صفة الأخضر عليه رغم أنه الفريق الأخضر المتوحد بين أندية الكبار.. بالطبع أشهر الأندية السعودية الخضراء وأبرزها وأهمها.. لكن أحدًا لا يقول ولا يصف الأهلي بالأخضر والسبب يعود إلى أن "الأخضر" رمزية ملتصقة بالمنتخب السعودي، وهو الاسم الأكثر تداولًا وتمجيدًا لكل انتصار يرافق اللاعبين حينما يرتدون قمصان المنتخب الخضراء.. حينما تقول: "الأخضر يلعب اليوم" فكل الأذهان ستذهب بظنونها ومعتقداتها وحساباتها صوب المنتخب السعودي الذي اعتاد الرياضيون والإعلام الرياضي والجماهير الرياضية على مناداته بالأخضر.. حتى الأهلاويون أنفسهم لا يصمون ولا يصفون ناديهم وفريقهم بالأخضر.. ذاك التباس واضح قد يدخلهم في زوايا مجهولة.. لا يفعل الأهلاويون ذلك بأنفسهم وبناديهم المتوارث للفكر الراقي الذي التصق به كثقافة وجودية منذ عشرات السنين.. الأهلي أخضر.. لكنه لا ينادى بالأخضر.. إنها الصورة الواضحة كما يراها العقلاء والمتعقلون..!!
الهلال وحده الأزرق.. هناك الفتح مثلًا هو أيضًا أزرق اللون لكن أحدًا لا يجرؤ على وصفه بالأزرق.. الأزرق هو الهلال كما أن الأصفر هو النصر.. الاتفاق يحمل اللونين الأخضر والأحمر.. ليس له صبغة لونية.. القادسية كذلك.. أندية سعودية كثيرة لا تحتمل معايشة فرضية الألوان هذه.. الطائي ينادى بالأشهب.. لون متفرد واسم متخصص ومعروف.. الفيصلي أيضًا يعتز بألوانه العنابية.. يناديه الإعلام بالعنابي.. هل هناك عنابي غيره في الكرة السعودية.. الإجابة "لا"..
هناك إضافة تنويرية تضع مزيدًا من النقاط على مزيد من الحروف.. لا تقاس القيمة والأفضلية والأهمية باللقب أو الاستثناء باللون لكنها ممتلكات جاء بها الزمن فيأتي الاستيلاء عليها جارح ومؤذي ووضيع.. تمامًا مثل سلوكيات عصابة مأجورة تتجاوز كل الخطوط الحمراء وفي آخر اليوم تطالب أصحابها بالطرب على أغنية طلال مداح "زمان الصمت"..!!
هل سيعيب النصر لو قالوا له أنت لا تستحق أن تكون الأصفر.. هل سيهز الهلال لو قيل له أنت لا تشبه البحر ولست من القائمة الزرقاء.. ليس هناك أزرقان.. ليس هناك أصفران.. إنها أحادية الاسم واللقب والمسمّى وإلا لما كان الأهلي قد تنازل عن شعاره الأخضر العتيق وتعايش مع موسيقية "الأخضر" وآمن تمامًا بتخصصها وخصوصيتها للمنتخب.. يحق للهلاليين التفرد بزرقة البحر فهذا قدرهم وأقدارهم.. حافظ إبراهيم نفسه شهد لهم بكل تلك المساحة الشاسعة في أعماق البحار.. البطولات أيضًا كانت شاهدًا وشهيدًا.. النصر زاهيًا مزهوًا بلونه الأصفر.. بالتأكيد هو كذلك لن يضيره أو يغيره أو ينقصه شيء إذا لم يوصف بالأصفر.. هذا ليس تجنيًا على التاريخ وليس تجاوزًا لعقول البشر ومداركها.. إنها فقط لعبة مستأجرة تدعم مناكفات ومناوشات ومجادلات لا تسمن ولا تغني من جوع..
هل الحكاية تستحق إجراء استفتاء رياضي شعبي يسأل فيه من هو الأصفر ومن هو الأزرق ومن هو الأخضر.. إذا شارك الأهلاويون سيقدمون نيابة عن أصواتهم وآرائهم أغنية فنان العرب محمد عبده: "خضر الفنايل".. سيشدون بها ويتراقصون على إيقاعاتها ويقولون لكم: الأخضر هو منتخبنا السعودي.. الهلاليون سيستحضرون شاعرًا آخر تغنى بناديهم خوفًا من عدم قبول شهادة حافظ إبراهيم.. سيكتبون ما قاله إبراهيم خفاجي في قصيدته النابضة بالحب والرومانسية والتحدي:
إذا لعب الهلال فخبّروني
فإن الفن منبعه الهلال
بزرقته السماء تشع نورًا
على صرح الزعامة في المطال..
أما النصر المتوحد بالاصفرار.. الأصفر الذي ارتبط لون الشمس بجمهوره.. وارتبطت كل أغنية تشدو به بألوان الذهب فسيستعيد ذكرياته مع طلال مداح ونزار قباني، ويسهر ليلته الموعودة على أنغام "في وسط القلب يا الأصفر أحطك"..