|


أحمد الحامد⁩
رَكّزْ...
2022-09-15
كان أحد الزملاء، كلما مرَّ بجانبي، يقول لي: “رَكّزْ”. وإذا مرَّ وكنت بعيدًا عنه قال بصوت عالٍ: “أحمد… ركّزْ”. أما إذا تقابلنا بعد إجازة، فكان يردِّد: “أتمنى أن تكون مرّكزًا”.
كنت آخذ ما يقوله على سبيل المزاح، زميلٌ يشاغب زملاءه، لكنني اليوم لا أعتقد أبدًا أنه كان يمازحني، بل كان ينصحني على طريقته الخاصة، وبكلمة واحدة، وكأنه يقول لي: “هذا هو المفتاح: التركيز”. بعد سنوات، كانت حقولًا من التجارب، صرت أرى كلمة “ركّز” تظهر لي بصورة متكررة، يصاحبها وجه الزميل وطريقته في لفظ: “ركّزْ”.
اليوم عندما أحاول تحليل الأسباب التي جعلت من شيء ما ناجحًا، وآخر لم يحالفه النجاح، أجد في نتائج التفكير، أن التركيز وُجِدَ في النجاح، ولم يكن موجودًا فيما انتهى بالفشل. عملت في مرحلة ما على ثلاث أفكار في وقت واحد، ولم تنجح فكرة منها، وعملت في مرحلة أخرى على فكرة واحدة، لم أكن أهتم بشيء غيرها، وصار كل تفكيري لها، أواجه ما يستجدُّ من مشكلات فيها أوَّلًا بأول، وأنفِّذ كل ما أظن أنه سيضيف لها وسيطوِّرها، وكانت النتيجة أن الفكرة نجحت، ليس لأنني كنت ذكيًّا، بل لأنني ركزت عليها بصورة كافية، وإذا كنت ذكيًّا، فلأنني ركزت لا أكثر. أما الأفكار الثلاث التي لم تنجح أيٌّ منها، فكان ذلك لأن كل واحدة منها، لم تأخذ حقها كاملًا من الرعاية والاهتمام، مثل الشجيرات التي لا تنمو بصورة جيدة، فتموت لقلة الرعاية والاهتمام.
في إحدى المرات كنت في القاهرة، وكان لي فيها صديقٌ، قال لي: إنه سيأخذني إلى رجل يبيع الحلوى، موضحًا أنه لا يبيع إلا صنفًا واحدًا. حاولت منع صديقي، لأنني خشيت أن يذهب المشوار سدى، فقد لا تكون الحلوى لذيذة، بينما النيل جميلٌ في كل حالاته، لذا كان شرب قهوة على النيل أضمن سعادةً وراحةً من حلوى لا أعرف طعمها. عندما وصلنا إلى المكان، وجدت دكانًا صغيرًا، ومن الواضح أن “العم إبراهيم”، بائع الحلوى، اقتطع جزءًا من بيته ليجعله دكانًا. في عالم العطور، يقال: إن رائحة العطر في الثواني الأولى من شمِّه، هي التي تلعب الأثر الأكبر في تشكيل الرأي عن العطر، وفي قرار شرائه، أو الامتناع عن شرائه، حتى وإن كان للعطر تبدُّلات لاحقة. والعطر عادةً له ثلاث مراحل من الروائح بعد رشه، تبدأ بقمة العطر، ثم القلب، ثم القاعدة. وفي عالم الديكور، لا تزيد المدة عن خمس ثوان لتشكيل الرأي إن كان المكان الذي تشاهده رائعًا، أو العكس. أما في عالم الطعام، وبعد تذوُّقي حلوى “العم إبراهيم”، فيمكنني القول: إن الملعقة الأولى، هي التي تحدِّد رأيك بالطعام الذي تتناوله، لأنني من الملعقة الأولى، عرفت أن “يد العم إبراهيم تتلف بحرير” كما يقول أحبتنا في مصر. لم أفوِّت الفرصة، وسألته عن سر نجاح الحلوى الوحيدة التي يصنعها، ولماذا لم يصنع أنواعًا أخرى طالما أنه بهذه المهارة؟ فأجاب بأنه توصَّل للخلطة بعد تجارب كثيرة، وأنه بعد نجاحه في هذه الحلوى الوحيدة، قرَّر صنع حلويات أخرى، فوجد أن تركيزه قد تشتَّت، وهذا ما أثَّر في مستوى حلواه الأولى الناجحة، لذا فضَّل التركيز على شيء واحد، يحقق فيه النجاح الكامل. التركيز وجه من وجوه الإخلاص.