المطر حبيب الأرض، مفتونة به قدر احتياجها إليه، وهي ليست هي إن لم يرتمِ في أحضانها، فإن زارها تبدو في ربيع شبابها وحيويتها. ودونه تبدو حزينة شاحبة وثقيلة، والمطر عصب اقتصاد، هطوله يعني الرخاء والبحبوحة والصحة والملابس الملونة وموائد الطعام الغنية والشهية، وشحه يعني الفقر والهجرة، وهو من يحدد للمزارعين مزاجهم، تعلو ضحكاتهم ويقفز نشاطهم إذا ما ارتوت منه حقولهم، وتحبط نفوسهم وتزيد مخاوفهم إذا ندر ظهوره في موسمهم، والمطر رسام ماهر، يضرب بقطراته مثل فرشاة على لوحة، فتُنبت الأرض الأزهار والورود على سجادة خضراء. أسماه العرب أكثر من 30 اسمًا لأهمية أوصافه وحالاته، أخفه الطل وأقوى منه الرذاذ وأقوى منهما البغش وأقوى منهم الدَث. قال الثعالبي عن أسمائه إن الحياء هو من يحي الأرض بعد موتها، والغيث إذا جاء بعد المحل، وإذا دام المطر مع السكون فهو ديمة، أما إذا استمر في الهطول فيسمى الودق، أما إذا كان ضخم القطر شديد الوقع فهو الوابل، أما إذا روى كل شيء فيسمى الجود، وإن كان كثيرًا فهو العز. والمطر رفيق الشعراء، مفتاح قريحتهم ومثير مشاعرهم، لا أظن أن شاعرًا لم يكتب في شعره عن المطر، وإن لم يكتب فلا بد أنه سيكتب يومًا، وإلاّ كيف يكون شاعرًا دون أن يضمّن بعضًا من صوّر المطر في أبياته. قال نزار:
الشعر يأتي دائمًا مع المطر
ووجهك الجميل يأتي دائمًا مع المطر
والحبُّ لا يبدأ إلاّ عندما تبدأ موسيقى المطر
إذا أتي أيلول يا حبيبتي أسأل عن عينيك كل غيمة
كأنَّ حبي لك مربوط بتوقيت المطر.
يرتبط المطر في مخيلتي بالطفولة، كنا نركض نحوه عندما يتساقط، نفتح أيدينا وكأننا نريد احتضانه أو جمعه، لا نبالي إذا ما ابتلت ملابسنا، نركض نحوه بشوق، وكأننا على حب قديم معه، يغسل الأرض والبيوت، وعندما كبرت شعرت بأنه قد يغسل الأنفس كذلك، والمطر ارتبط بالدعوات والأيدي باتجاه السماء، بأن يمّن الله به علينا. أحفظ بيتين من الشعر ولا أعرف اسم القائل:
عسى المطر يهطل على الناس همّال
ويسقي مكان العرب في كل ديره
يرزقهم الله شوفة السيل لا سال
والشمس ما تنشاف من زود خيره.